في الفايسبوك يتفوق التعبير على التغيير

في بداية مراهقتي، في ستينات القرن الماضي، كنتُ أواظب على قراءة مجلة فرنسية خاصة بعمري، “مرحباً أيها الأصحاب” (Salut les copains). من بين زوايا المجلة الثابتة، كان هناك واحدة عنوانها “مراسلات”، فيها أسماء عناوين لبنات وصبيان، من كل أقطار العالم الفرنكوفوني، صورة “شمسية” لكل منهم، مع هواياته المفضلة. كانت “المراسلات” منذورة للذين واللواتي يودّون إقامة علاقة “صداقة بالمراسلة”. كنتُ مولعة بهذه الزاوية، وأقيم “مراسلات” مع أنحاء عدة من العالم الفرنكوفوني، وكان مزدهراً آنذاك. أكتب على ذاك الورق الأصفر، صفحات وصفحات عن عائلتي، مدرستي، بلدي، بلدتي، الصبيان والبنات الذين من حولي، من أقارب وتلامذة وجيران، عن الروايات التي كنت “أتجرأ” على قراءتها، حتى في أروقة مدرسة الراهبات المتشدّدة. الرسائل أبعثها، أنتظر الإجابات عنها، بنوع من اللهفة المحمومة؛ أطوي الأوراق الصفراء بعناية، وأضعها في غلاف “مميز” دائماً، وأذهب بمشوار قصير الى “البوسطة”، حيث أضع الطابع البريدي على الظرف، وأرسلها.
صبيان وبنات من عمري، من أفريقيا الغربية وأوروبا، يردّون عليّ بأشياء شبيهة؛ أسماؤهم كانت ترنّ يومياً بأذني، أحسب الأيام، فأتوقع من أحدهم، في هذا اليوم بالذات، جواباً. كان البوسطجي، لذلك، أهم شخصية عندي. يوماً بعد يوم، كان يمرّ على حيّنا بدرّاجته الهوائية، يقودها بيده اليمنى، على كتفه رزم من الغلف، بعضها مرصوص، والآخر يرفعه بيده اليسرى. كنتُ أنتظره على الشرفة يومياً، يوماً بأمل وآخر من دونه، محض انتظار. في الأيام الحلوة، كان يلوّح لي من بعيد، بيده المحمّلة غلفاً قليلة، وبابتسامة عريضة، كأنه هو الذي تلقّى الجواب. البوسطجي كان مثل مفتاح لأبواب، كنت أشعر بحيويتها، بالحاجة اليها، من دون أن أدركها تماماً. فرسائل “أصدقاء” المجلة كانت حميمة وعامة في آن واحد. موجهة اليّ بالتحديد، كُتِبتْ من أجلي، تردّ على أسئلتي وفضولي، فيكون عالم قريب من قصة قصيرة كُتبت من أجلي، أدخل إليه، بصفحاته الثلاث أو الأربع. اقرأ الرسائل هذه عشرات المرات. أكثرهم شغفاً بوصف حياته ومحيطه كان صبياً من دولة أفريقيا الوسطى، شقيق رئيس جمهوريتها، كان يتكلم عن غرائب، مثل اسمه الرباعي، “القبَلي”، الأفريقي، المسيحي، الأوروبي.
“المراسلات” هي ربما الإبنة الشرعية الوحيدة لمفهوم الصداقة الذائعة على شبكات التواصل الاجتماعي؛ من حيث افتراضيتها الضائعة في العراء، من غير أن تكون مقنّنة بالشبكة الإلكترونية: من حيث التقدم بطلبات الصداقة مع “سي في” (C.V.) والموافقة عليها، وتختلف عنها بأشياء أخرى.
المهم، ان شبكات التواصل الاجتماعي تنطوي، بالإضافة الى التواصل مع الآخرين، سمة المجال الحيوي، ذاك الإطار الذي يوسّع حركتنا العامة، ويمنحنا فرص التعبير عن أنفسنا وعن آرائنا، وقدرة لا نجدها في مكان آخر، على المشاركة في رسم مخيلتنا، في صوغ ثقافتنا أو سياستنا أو نمط حياتنا حتى. المقصود أن أيامنا، فوق تبادل الرسائل، كانت كريمة معنا في إهدائنا الى مجالات حيوية واقعية، قبل “الإفتراضية” منها؛ كانت الماتشات الرياضية التي تجمعنا، في مراهقتنا، كذلك مسابقات الماراتون والسباحة، وحفلات “البارتي”، التي كنا ننظّمها بغفلة من أهلنا. فضلاً عن الرحلات المدرسية التي كانت دائماً تصادف مع رحلات لمدارس أخرى، لصبيان وبنات من أعمارنا.
المجال الأرحب، والأكثر حيوية، وجدتُه في أواسط مراهقتي، بعد مرحلة الأصحاب بالمراسلة الفرنكوفونيين؛ كانت المشاركة في التظاهرات وجمع التبرعات للفلسطينيين والتدرّب على السلاح في مخيماتهم، وعلى إدارة عياداتها الميدانية. من هذه المشاركة الى العضوية في منظمة يسارية “متطرفة”، “منظمة العمل الشيوعي”، كان مجالها متنوعاً وديناميكياً، خليطاً من أبناء الطبقات والمناطق والطوائف والشخصيات المختلفة. مجتمع بعينه، يتفوق أحيانا كثيرة على مجتمع الأهل، مخترقا منه أحياناً. عندما خرجتُ منه، بعدما دختُ في مثالبه خمسة عشر عاماً، كانت مشكلتي الكبرى خسارتي للأصدقاء، ولم يكن تعريفي للصداقة على الفذلكة التي هو عليه فيها اليوم. المجال الموازي للصداقات كان الجامعة، “كلية التربية” بالتحديد، التي خلق دوامها الإلزامي، فضلاً عن مناخ تلك الأيام، ربما، أنماطاً من التفاعل الإنساني لن تجدها في مكان أو جامعة لبنانية أخرى؛ دوائر جديدة لصداقات دائمة، ولتجارب سياسية فنية وشعرية وأدبية وغرامية. كلها مجالات نَمَت خلالها صداقات متينة سليمة، صارت الآن تراثاً.
مع خروجي من “منظمة العمل الشيوعي” وتخرّجي من كلية التربية، تقلص نطاق الصداقات والتفاعلات السياسية. السياقات اللاحقة المتفرقة التي حاولتُ بها استعادة هذين الإطارين، كانت متفاوتة؛ بعضها في الثانوية، ثم في الجامعة، حيث علّمت. وبعضها الآخر في جمعيات ما يسمّى بـ”المجتمع المدني”، لم يكتب لأيٍّ منها تطور، أو استدامة. تجارب كانت غالبية تفاعلاتها سلبية، أو على الأقل صفرية النتائج. هذا كله مرّت عليه ثلاثة عقود من الزمن، حتى جاء الإنقسام الوطني الكبير ليسمّم بشظاياه اللاهبة الصداقة والتفاعل السياسي معاً، وينسف في طريقه صداقات بدت لوهلة انها خالدة، وآليات تمحوُر مبنية على الإنتماء المذهبي، بعصبية غير معلنة، غالباً، وبعقيدية، رديفة، لا تقلّ قدرة على تدمير الطاقة التي يحتاج اليها البشر، أينما حلّوا، ليجتثّوا غربتهم الصميمية، بالحب والصداقة والتضامن والتآزر. التجارب التي خضْتها في تلك الحقبة، وما ورثته عن تلك التي سبقتها، ذاك الخليط الملغوم بين الصداقة والسياسة، جعلتني أدور في حقول كأنها جرداء، أصبر عليها بالمسافة اليومية التي أقيمها معها؛ المسافة الضرورية لفهم جفافها وعقمها، من دون فقدان أمل أحتاج اليه، إنقاذاً للنفس من الغرق في رمالها الحارقة. أتمرّن يومياً على هذه المسافة التي لا تتوافق مع مزاجي وطبائعي؛ أقول لنفسي ان الحياة عبارة عن عادات جديدة عليك اعتمادها، وإلا اندثرتَ.

السابق
بيونسية تتخفى بالبرقع
التالي
رعد: الفريق الآخر يضع شروطا تعجيزية لتشكيل الحكومة