عن معاصر الزيتون.. ومصارع الشهداء

معاصر الشهداء
المفخرة في أحاديث معاصر الزيتون هذه الأيام كم شهيد قدّمت هذه القرية أكثر من تلك في جنوب "المقاومة". لا أحد يتحدث عن إسرائيل، رغم طنين طائرات الاستطلاع فوق رؤوسهم. ودّعتهم متمنيا لقاءهم العام الآتي في المعصرة، بوافر الصحة، لا شهداء، ولا صور معلّقة في الشارع.

تطالعك وأنت تمرّ في القرى الجنوبية عند مداخلها صور ضخمة معلّقه في الهواء بواسطة الحبال لشباب ملتحين في مقتبل العمر هم شهداء حزب الله في سوريا أو  “شهداء الواجب”، كما يطلق عليهم إعلام الحزب.

تتوارى صور الشهداء الذين سقطوا إبان الإحتلال الإسرائيلي خلف تلك الصور العملاقة، ليذكرنا المشهد بحقبة عبرت لم تعد اليوم تهمّ الجنوبيين القاطنين بأمان خلف الخط الأزرق الحدودي الفاصل بينهم وبين العدو الإسرائيلي. ولولا عنين طائرات الاستطلاع الخفيفة التي تمرّ فوق سمائهم بأوقات متفاوتة، ما كان لذكر اسرائيل أثر على ألسنتهم.

 معارك القصير، السيدة زينب، نبّل والزهراء، خناصر  في سوريا، هي الأحاديث الحاضرة. وإحصاء عدد الشبان الذين سقطوا حتى الآن في القرى والبلدات المجاورة هو هاجس اهالي الجنوب هذه الأيام. وما في الإحصاء من تشاوف بين اهل القرى بالاعداد “الاكثر” في هذه القرية من تلك.

كانت سهرة المعصرة حافلة بتلك الأحاديث، ومعاصر الزيتون هذه الأيام تصل الليل بالنهار مستخدمة طاقتها الكاملة، لأنّ موسم القطاف كموسم الحج ميقاته شهر واحد وان زاد قليلا. فالزيتون لا يحتمل ان يظل في الأكياس لأكثر من يومين كي لا يفسد. وان كان موعد عصر محصولك الثالثة فجرا، فلا بد لك من الحضور الى المعصرة كي تجني محصولك من الزيت النفيس.

الحديث في المعصرة كان عصارة الأحاديث. العمال جلّهم من السوريين مع اقلّية من السكان المحليين. وصاحب المعصرة وأحد أبنائه واثنان من قريته هم الآمرين الناهين فيها.

“انظر اليهم”، قال لي أحد العاملين الشباب وهو من قرية مجاورة، وتابع: “انهم سوريون ندعهم يعملون ولا نتعرّض لهم مع اننا نعلم أن الكثيرين منهم يميلون الى المعارضه السورية”.

أجبته: “لو أرادوا لقاتلوا وقبضوا المال من المليشيات المسلّحة ولكنهم مسالمين”. فوافقني على ما أقول ثم تقدّم وكشف عن زنده وقال: “انظر الى أثر هذا الجرح، لقد كنت أقاتل في القصير مع الحزب (حزب الله يقصد) وجرحت شظية ذراعي هذا، والآن شقيقي الأصغر يقاتل مكاني في سوريا وهو لا يأتي الى البيت ألا نادرا”.

فأجبته: “الحمد لله على سلامتك وأعان الله والدتك، هي لا شك دائمة التفكير والإنشغال بشقيقك المقاتل في سوريا”.

وهنا تدخّل أحد رفاقه ابن بلدته قائلا: “سقط حتى الآن ثلاثة شهداء من أبناء بلدتنا ولا تخلو القرى المجاوره من شهيد في كل قرية أو أكثر”، وأكمل: “هي معركة شرسة ضد التكفيريين يجب أن نقاتلهم على أرضهم وإلا تمادوا ودخلوا أراضينا”.

فأجابه رفيقه الذي افتخر أمامي بجرحه منذ قليل: “الحمد لله بلدتنا فازت بشرف تقديم أكبر عدد من الشهداء: ثلاثة. بينما القرى المجاورة قدّمت شهيدا أو إثنين لا أكثر”.

ثم استرسل الجميع في أحاديث التضحية والفداء دفاعا عن الأرض والدين والعرض، ووجوب مقاتلة التكفيريين المجرمين في سوريا. أحاديث يساندها منطق اعتاد الجميع سماعه في الجنوب، أحاديث البطولات التي لا تنتهي.

حتّى لو كان المستمع خارج سياق هذا التفكير ومنطقه، الا انّه، في المحصّلة، لا يستطيع الا الإشفاق على هؤلاء الشباب الطيبين والتعاطف معهم، عاطفيا على الأقل. هم الذين يحدثونك عن كل ما يخطر ببالهم دون تحفّظ، ولا يتصورون ان احدا من أبناء جلدتهم يمكن ان يخالفهم الرأي فيما يقولون.

طال حديث المعصرة ولاح الفجر وحملت الزيت الأخضر الذهبي الذي عبّأه لي هؤلاء الطيبون البسطاء. ودّعوني بالسلام وحلو الكلام. وانا ودّعتهم راجيا من الله أن ألقاهم في العام الآتي وهم بوافر من صحة وسلامة، لا شهداء مضافين على من سبقهم، ولا صورا معلّقة على مداخل قراهم الصابرة.

السابق
ترو: لاعادة الاشراف على قمع مخالفات البناء
التالي
جورج عبود: حجم تأثير غياب داني شمعون يكبر عاما بعد عام