تركيا: من جيزي إلى إرساء الديمقراطية

في طفولتي، كان من المثير للاهتمام والغريب نوعا ما أن أرى الناس يتحدثون بلغات مختلفة مع كونهم جميعا أتراكا. وقلما كنت أجد ردا على سؤالي، «أي لغة يتحدثون؟» دائما ما كان هناك مسنون حولي يحدثونني قائلين: «تحلي بالهدوء». لم يرغبوا في إحراجهم، لكن لم يتسن لي مطلقا أن أفهم لماذا يجب أن يشعر هؤلاء الذين يتحدثون بلغة مختلفة بالحرج.
دائما ما كان هناك أكراد وأشوريون وأرمن ورومانيون. كنا ذلك الشعب: دولة إسلامية ديمقراطية توجد بأقلياتها وتضم شعوبا وأعراقا وديانات مختلفة. وبعد أن أنشأ أتاتورك جمهورية تركيا، اعتبرنا الأرمن قادتنا ووصفناهم بلقب «المخلصين». لقد كان لدينا وزراء ورؤساء وزراء من أصل كردي. لكن هل كانت دولة ميزت بين هؤلاء الذين تحدثوا الكردية والأرمينية، واستشعرت الإحراج تجاه ذلك، ديمقراطية بحق؟
إن نظاما ينظر الشعب فيه بازدراء إلى الأكراد، ولم يمنحوهم وظائف أو يقبلوهم كمستأجرين في منازلهم، وشعبا لم يقبل حقوق الأرمن والآشوريين والرومانيين لا يمكن أن يكون ديمقراطيا على الإطلاق.
لكن هل وجود الأقليات هو المشكلة الوحيدة هنا؟ في دولة لا يتمتع فيها المتدينون الأتقياء بأي حقوق على الإطلاق، أين يجب أن يبحث المرء عن الديمقراطية؟ هل كانت تلك النساء اللائي جرى تقديمهن للمحاكمة ويواجهن عقوبة الإعدام نظرا لأنهن أردن دخول المنشآت الجامعية مرتديات الحجاب، أو الضباط الذين جرى وضع أسمائهم في القائمة السوداء لأن زوجاتهم يرتدين الحجاب، أو الموظفون الحكوميون الذين جرت إقالتهم من مناصبهم في الأجهزة الحكومية بسبب قيامهم بالصلاة في ساعات العمل الرسمية، والمتدينون الذين جرى حبسهم من دون مبرر، جزءا من الديمقراطية؟ ماذا عن زوجتي الرئيس أو رئيس الوزراء اللتين لا تستطيعان دخول مبنى البرلمان أو حتى حضور مراسم الاستقبال الرسمية نظرا لارتدائهما الحجاب؟
لا يمكن لأحد أن يصف هذا بالديمقراطية. لقد استشعرت تركيا فجوة الديمقراطية الكبرى هذه على مر تاريخها ودفعت ثمنا باهظا. إن رؤساء الوزراء والوزراء الذين لم يتسن لهم اتخاذ قرار من دون التشاور مع القادة العسكريين أولا كانوا بمثابة مصدر إحباط بالنسبة للدولة: كانت الانقلابات ومؤامرات الانقلابات مناقضة للنظام الديمقراطي وللدولة الإسلامية الديمقراطية.
حينما أصبح أردوغان رئيسا للوزراء، تغيرت الأمور بدرجة كبيرة في تركيا، لكن هذا التغيير لم يكن كافيا بالنسبة للجميع. أرادوا شكلا مختلفا من الديمقراطية. ديمقراطية أكثر حرية. كان ذلك هو السبب الحقيقي وراء انتفاضة جيزي.
كانت انتفاضة جيزي تظاهرا من أجل المزيد من الديمقراطية. دائما ما كان من الجيد وجود شباب يطالبون بالديمقراطية. وعلى الرغم من ذلك، فإن هؤلاء الذين رغبوا في إقالة أردوغان من السلطة وإضعاف الحكومة تحت ذريعة مظاهرات جيزي لم يحصلوا على ما توقعوه.
فالمظاهرات ضد أردوغان أيقظت فجأة حكومة حزب العدالة والتنمية، التي أحكمت قبضتها على السلطة لمدة 11 عاما باستخدام وسائل مماثلة. جرى التخلي عن الرتابة، وسرعان ما حُددت الأخطاء، ومن ثم، جاءت حزمة إرساء الديمقراطية مع هذه الصحوة. في الحزمة، كانت هناك لوائح بالنسبة للكثير من الجماعات العرقية والدينية، خاصة بالنسبة للشعب الكردي. ألم يكن هذا بالفعل ما تعنيه الديمقراطية؟ حقوق للجميع على حد سواء.
من بين القرارات الكثيرة في حزمة إرساء الديمقراطية التي أعلن عنها يوم 30 سبتمبر (أيلول)، تضمنت اللوائح:
* الحق في التعليم بلغات مختلفة وفي مدارس خاصة.
* سيجري وضع أحرف X وQ وW – المستخدمة في اللغة الكردية – على لوحة المفاتيح.
* رفع الحواجز القانونية المفروضة على استخدام أسماء المدن الكردية.
* السماح بالإعلان بلغات ولهجات مختلفة.
وهذه هي أولى المبادرات وأكثرها شمولا منذ بدء فترة الحكم الجمهوري. العقوبات الرادعة ضد التمييز وإطلاق معهد للغة والثقافة الرومانية، وعودة أراضي دير «بربل غابريل» إلى الآشوريين، جميعها مبادرات مهمة، تضم أقليات تركيا وتوجه تركيا نحو فكرة مجتمع متعدد الثقافات.
وفي أعقاب كارثة انقلاب ما بعد الحداثة في 28 فبراير (شباط)، يعتبر رفع حظر ارتداء الحجاب في الهيئات الحكومية بمثابة تطور مهم من شأنه أن يحرر تركيا من قيودها.
«هذه الحزمة بالطبع ليست حزمة سوف تحرر تركيا من كل قيودها وتقضي على الفضلات؛ مع كونها خطوة بالغة الأهمية في هذا الاتجاه»، هذه هي الكلمات التي جاءت على لسان رئيس الوزراء أردوغان. ويكرر أردوغان: «هذه مجرد البداية!».
إنها بداية قوية باسم إرساء الديمقراطية. هي بداية مبشرة جدا بالنسبة للاتحاد الأوروبي، الذي يراقبنا عن كثب منذ عام 1996.
لم تجد بعض الجماعات الشيوعية المؤيدة لحزب العمال الكردستاني المبادرة الكردية الحزمة مرضية. لطالما رغبت في أن ترى اللغة الكردية هي اللغة الرسمية. وكان هدفهم الأساسي هو: أولا، سيجري الفصل بين اللغات، ثم مساحات المعيشة المشتركة والمدارس والهيئات الحكومية، ثم سيكون هناك سلك شائك بينها. سوف تتحول حواجز الأسلاك الشائكة إلى جدران ضخمة سميكة، وسينبعث صوت من منطقتنا الجنوبية الشرقية قائلا: «نحن منعزلون عن تركيا!» الهدف من هذا السيناريو، الذي سيفصل تركيا بأسلوبها الماكر ويمثل مشكلة بالنسبة لأشقائنا الأكراد في الجنوب الشرقي، هو إرساء نظام شيوعي؛ تحديدا ما كانت هذه المنظمة تحاول القيام به على مدار فترة الثلاثين عاما المنصرمة في تركيا.
الهدف من حزمة إرساء الديمقراطية هو تحقيق الديمقراطية؛ إنها تحمي الشيوعيين تماما كأي شخص آخر، لكنها لا تمنحهم مسارا لبرنامجهم المشين. وعلى الرغم من أن هذه الحزمة ليست مثالية، فقد منحت الشعب الكردي الحقوق التي كان من المفترض أن يملكها ولم تمنح الشيوعيين الساعين للاستفادة من القومية الكردية الفرصة التي كانوا ينتظرونها.
إن مظاهرات جيزي تقود تركيا نحو مستقبل ديمقراطي قوي للمرة الأولى خلال فترة الحكم الجمهوري الممتدة منذ 90 عاما. ربما للمرة الأولى، لن يجر الحكم على الأكراد من قبل بعض الأفراد غير المسؤولين بسبب تحدثهم الكردية، وسوف يجري تأمين كل حقوق الرومانيين، وسيتسنى للآشوريين الصلاة كما يشاءون. ربما للمرة الأولى في تاريخ جمهورية تركيا، سوف يدرك من يميزون بين الناس على أساس الدين أو العرق أن هذا يعد جريمة وستجري معاقبتهم. سيشعر الشيعة – الذين أصبحوا على درجة كبيرة من الارتياح لحكومة حزب العدالة والتنمية – بمزيد من الارتياح للوعد بـ«حزم جديدة».
إن من توقعوا انقلابا أو حكما عسكريا أو ظهور نظام شيوعي من جيزي، وجدوا أنفسهم في مواجهة نظام ديمقراطي. ومن نصبوا خيامهم في متنزه جيزي متوقعين المزيد من الديمقراطية ينبغي أن يكونوا راضين عن هذه التطورات. إن الدول الحرة التي تصان فيها حقوق البشر سعيدة. وخطوة تركيا نحو دولة دينية وديمقراطية واعدة. نأمل أن يكون بوسع تركيا أن تظهر للعالم بأسره أن دولة إسلامية يمكن أن تمثل معقلا حقيقيا للديمقراطية.

السابق
ذئب أم حمل أم ماذا؟
التالي
السفينة تنحرف نحو الصخور