الحزب الشيوعي المهزوم من الداخل والخارج

شيوعيون لبنانيون
رغم ضربه من قبل سوريا وتجيفيف منابعه السياسية والمالية، وإبعاده عن النيابة والوزارة، ظلّ الحزب الشيوعي خادما وفيا لسوريا. حتّى بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري لعب دورا وسطيا شكليا.

يصرّ الحزب الشيوعي اللبناني على تنشيط الذاكرة السياسية اللبنانية، والعودة بها إلى بدايات الواجهات الأولى للاحتلال الإسرائيلي، تأسيساً منها لردّة فعل على “فرار” عسكري لجيشي منظمة التحرير الفلسطينية، والحركة الوطنية اللبنانية لحظة ولادة الاحتلال، الذي وصل نموه سريعاً، إلى العاصمة بيروت. تنادت القيادات الشيوعية بُعيد مواجهات “خلدة” وعمليتي “الحمرا” للإعلان عن جبهة المقاومة الوطنية لردع العدوان، كتشكيل قادر على المكايلة مع العدو، وفق منطق المقاومة التي تدارس قيادات جمّول أدبياتها الفيتنامية والكوبية، وحاولوا من خلالها تطبيق منهجها الثوري الماركسي، إلى جانب المقاومة الفلسطينية، فباؤوا بفشل ذريع في تجارب عديدة مع عدو يملك ما افتقدته المنظمة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، من إرادة وقرار.

ربما تكون جبهة المقاومة لحظة انبثاق من طوع التجربة المرّة، وإعادة التمركز والاصطفاف داخل بنية كفاحية تستعيد ماهية الحزب الماركسي في قيادته المزمنة للعمل الوطني في لبنان تلاحماً مع الكفاح الفلسطيني الذي أضلّ الطريق وضيّع البوصلة.

لعب الحزب الشيوعي دوراً ريادياً في المقاومة على مستوى الإعلان والدعوة إلى تشكيله، وفي الممارسة النضالية، بحيث تمكّن من ترسيخ دوره الحزبي في صناعة المقاومة من جهة، وفي تفعيل دورها من جهة ثانية بواسطة شهداء ما زالوا منارات في طريق التحرير واستطاع أن يلبي حاجة المقاومة في بداياتها، رغم إمكانياتها المتواضعة، بعيد الاحتلال والهزيمة لمشروعي المنظمة الفلسطينية، والحركة الوطنية وخروج الأولى على ظهر سفينة من بيروت إلى تونس، وخروج الثانية من المعادلة اللبنانية، بعد انتشار الفكر الطائفي على أوساخ الاحتلال بأسبابه ومُسبباته.

كان لسقوط الاتحاد والسوفياتي دوراً مماثلاً لدور الاحتلال الإسرائيلي للبنان، بالنسبة للتيارات والأحزاب الشيوعية. فقد وقعت صخرة سقوط الحزب الشيوعي الروسي، على رأس الحزب الشيوعي اللبناني، وبالتالي تمّ توهين الحزب نتيجة فعلين الأول أكل حضوره، مشروعه، والثاني قضى على وجوده الفعلي.

هذه الخسارة للحزب الشيوعي فعلت فعلها في دوره، خصوصا في ما يتصل بجبهة المقاومة، إذ أن الحزب فقد الدعم السوفياتي المادي والمعنوي، وهذا ما جعله خارج الحسابات السورية التي ترتبط بصداقة مع السوفيات جعلت الحزب الشيوعي، رغم الاختلاف القائم بين الشيوعيين اللبنانيين والدولة السورية، موضع مسايرة محدودة، تحوّلت فيما بعد إلى عداوة واضحة أرهقت الحزب الشيوعي، ونالت منه، وجعلت من دوره في المقاومة صفراً بعدما كان رقماً مهماً في الدور والوظيفة.

على ضوء التباين الواضح والمكلف ما بين الشيوعيين والسوريين، بدأت قيادات في الحزب الشيوعي تطرح وجهات نظر من خارج المألوف الحزبي، وتؤكد على ضرورة التعاطي مع الواقع كما هو، كي يتمكن الحزب من ممارسة دوره المحدود في بلد خاضع بالكامل للدور السوري، فتمّ نوع من الانشقاق النظري داخل القيادة الحزبية الشيوعية على خلفية العلاقة مع النظام السوري، فجهة متمسكة بموقفها المبدئي من النظام السوري، ومن دوره الرجعي في لبنان، وجهة تحاول الخروج من أزمة الموت السياسي، بالتعلّق بعلاقة قريبة من المساحة السورية.

هذا الفهم الشيوعي الوليد داخل الحزب الذي يكنّ عداءً تاريخياً لسورية، قد بدأ يحتل مكانته داخل هيكل القيادة الحزبية، وكان لانسحاب الشهيد جورج حاوي القسري من أمانة عام الحزب، ومن ثم من الحزب، بداية الطريق نحو سوريا، إعادة تركيب الحزب الشيوعي وفق مصالح سورية أسدية، بعدما كانت مرتبطة بمصالح فلسطينية عرفاتية. من هنا ولد الانشقاق الفعلي داخل الشبكة التأسيسية للقيادة الحزبية، والذي أخذ مداه على مدار سنين طويلة، فخرج من خرج من الحزب، وبقي من بقي من القيادات، وهما نوعان أو صنفان. الصنف الأول موجود لم يغادر مكانته الحزبية، إلا أنه لا يتمتع بأي دور أو نشاط وصنف ممسك بدفاتر الحزب الحسابية، من المال إلى السياسة. ونتيجة لذلك، تم إضعاف المؤسسات التابعة للحزب الشيوعي، حتى ان القطاعات الشبابية تأثرت تأثراً كبيراً في الخلاف الحزبي، وبدأ الخلاف يعكس نفسه في توجهات انتقائية دون الاعتماد على الموقف الحزبي من الأحداث في لبنان على وجه الخصوص.

ورغم “سورنة” الحزب الشيوعي، لم يتمكن الحزب من تحصيل منفعة سلطوية من سوريا وحلفائها، وبقي خارج المحاصصات الوزارية والنيابية، ولم يتم توفير ما يلزم له، كما توفّر لحلفاء سوريا وأصدقائها من أشخاص وأحزاب.

وأمام هذا التعاطي المجحف بحق الحزب الشيوعي اللبناني، لم يغيّر الحزب صلاته السورية، وبقي خادماً لها، خصوصا في الموضوعات التي يعتبرها الحزب مسائل لا يمكن المساومة عليها، بدءاً من المقاومة للعدو، ووصولاً إلى مقاومة الانقسام الحاد بين اللبنانيين لحظة استشهاد الرئيس رفيق الحريري ومن لعب دور لا يحسب على فريق الثامن من آذار، وجاءت مواقفه المؤيدة جوهرها لهذا الفريق السياسي المرتبط بالسياسة السورية، تشبثاً بمكانة الاصطفافية داخل ورش الثامن من آذار.

حسم الحزب الشيوعي أمره في دور وسطي كما يدّعي، وفي إطار فريق سياسي ملتزم بتوجهات وتوجيهات واضحة لا لُبس فيها. وهو أمام الوسطية الشكلية، والالتزامية الواقعية، قد وضع نفسه أمام حائط من الاسمنت السياسي السميك لا يمكن تجاوزه في القفز أو الهدم، وبات أسير صيرورة سياسية جعلته خارج المهمة التاريخية للحزب الماركسي.

إن حزباً يؤمن بدور في تحويل المجتمعات لصالح النموذج الاشتراكي، ويعتبر الفقر والجوع والاقتصاديات البرجوازية مجالاً لنشوء الردّ الطبيعي على النماذج الاحتكارية الرأسمالية، كيف ينكفئ إلى داخل الزنزانة الحزبية؟ وكيف يترك قيادة الطبقة التي يعتبر نفسه معبّراً عنها وعن مصالحها؟ بالتأكيد أن ثمة أزمة في المنهج، بعد حدوث أزمة متفجرة في السلوك السياسي للحزب الشيوعي اللبناني، تحتاج إلى فتح نقاشات حول ماهية الأسباب التي غيَّبت وتُغيّب حزباً تتوفر له كل الظروف الاجتماعية كي يكون حاضراً وبقوّة في ساحة متعطشة للتيارات تحدث تطوراً هائلاً في سير المجتمعات.

ما دفعني إلى معاينة الحزب الشيوعي من الخارج “زهزهته” الإعلانية والدعائية، وخروج الأحمر في مناطق يسيطر عليها الأصفر والأخضر، في ذكرى انطلاق وإطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد العدو الإسرائيلي، واحتفاله بلافتة يُعبّر عن حالة تاريخية تم صرف كل رصيدها السياسي وبتنا بحاجة إلى إعادة التاريخ مجدداً وفق منهجيات جديدة تعتمل بطرق مختلفة عن التجارب المأسوية، كي ننهض من كبوة الحاضر إلى طموحات مستقبلية تسهم في إعادة العمل الوطني برؤية ناضجة، بعد أن فشل العمل الطائفي وأوصلنا إلى ما نحن عليه.

السابق
أحمد الاسعد: تنسيق المعارضة الشيعية بلا فائدة
التالي
مداجن حاصبيا والعرقوب: الكيمياوي يضرب الأسعار