سيناريو لم يخطر على بال أحد!

منذ أسابيع، حال إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما عن نيته القيام بضربة «محدودة» لسوريا كنوع من العقاب على ما قامت به السلطات السورية بقصف مواطنين سوريين بالأسلحة الكيماوية سقط فيها 1400 من الضحايا؛ كتبت في هذا المكان عن «أسوأ السيناريوهات الممكنة»، الذي كان تحول الضربة الأميركية إلى حرب إقليمية شاملة. لم أكن واثقا أن مثل ذلك سوف يحدث، ولكن القارئ أحيانا، وكذلك صانع القرار، يحب أن يعرف ما هو أسوأ الاحتمالات المتاحة؛ لأن أفضلها معروف، وهو أن تنتهي الأزمة من دون مواجهة أو مواجهات، وما بين هذا السيناريو وذاك يمكن النظر في سيناريوهات أخرى، مثل أن تجري الضربة وتنتهي وتتحملها القيادة السورية وتمضي في مسيرتها، أو أن تجد القيادة الأميركية أنه لا مفر من توجيه ضربات «محدودة» أخرى على فترات متفرقة حسب حالة العمليات العسكرية وتوازن القوي. لم يخطر على البال ساعتها أن تأتي صفقة تتجاوز الموقف الذي قاد إلى فكرة الضربة «المحدودة»، وتقوم بتغيير توازنات القوى في المنطقة من دون أن يكون هناك حرب إقليمية.
كان واضحا أن أوباما يواجه مأزقا لدى الرأي العام الأميركي الذي بات يعارض الضربة «محدودة» أو ممتدة؛ ولم يكن الحال أفضل في الكونغرس الذي تحالف فيه ديمقراطيون وجمهوريون على رفض الضربة؛ لأن بعضا لا يحب العمل العسكري من أي نوع، ولأن بعضا آخر يرى أن الضربات المحدودة ليس فيها الكفاية، ومن ثم فإن عدم القيام بها أفضل للولايات المتحدة. وكان واضحا أيضا أن بشار الأسد قد ضبط هذه المرة وهو يقوم بجريمة بشعة، وكانت الساعة تدق حتى يصدر تقرير للأمم المتحدة ينوه بأن القوات الحكومية هي التي قامت بالقصف الكيماوي. الحالة الوحيدة التي كان يمكن فيها للمعارضة أن تقوم بهذا العمل الإجرامي كان أن تخترق القوات الحكومية في دمشق، وتقيم قاذفاتها ومقذوفاتها داخلها، ومن هناك تقصف المتحالفين معها من السكان! الاحتمال بعيد عن المنطق، والأرجح أن روسيا لم تكن على استعداد للدفاع عنه، كما أنها لم تكن على استعداد للذهاب إلى أسوأ السيناريوهات ونتائجه الوخيمة، ولكن يمكن إنقاذ الموقف إذا ما كان بشار على استعداد لدفع الثمن.
قصة الصفقة بعد ذلك معروفة من أول تصريح جون كيري وزير الخارجية الأميركي في لندن الذي أجاب فيه عن سؤال افتراضي عن السيناريو الذي يمكن من خلاله أن تتجنب سوريا الضربة الأميركية، ورده متشككا بأن ذلك يمكن أن يحدث إذا ما تخلت عن أسلحتها الكيماوية؛ وانتهاء بالإعلان عن قبول روسيا وسوريا لصفقة لم تكن معروضة بصورة رسمية. المسألة بدت كلها نوعا من الصدف التاريخية غير المتوقعة والتي من جودتها لا يمكن تصديقها؛ وفي التاريخ عندما يحدث ذلك فإنه إما أن الأخبار ليست طيبة أصلا، أو أن تصديقها هو نوع من الخلل العقلي، وكلاهما ليس متوافرا في حالتنا. فالمرجح أن لقاء أوباما وبوتين في قمة الدول العشرين تضمن الاتفاق الذي تم وفق السيناريو الذي سار عليه، فليس سرا على أحد أنه يستحيل عدم قدرة المخابرات الأميركية والروسية على معرفة صاحب الضربة الكيماوية، فخبراء الأمم المتحدة يعتمدون في تحليلاتهم على معلومات مخابرات الدول وصور أقمارها الصناعية، والقدرات التكنولوجية لتحليل التربة وهكذا التي لا يمكن إلا لدول عظمى أن توفرها. فإذا سلمنا أن المخابرات في واشنطن وموسكو كانتا تعلمان عن يقين من صاحب الضربة الكيماوية، فإن أوباما الذي كان يتحرق إلى تجنب الصدام مع الرأي العام كان على استعداد لقبول صفقة معقولة قدمها بوتين لتجنب الإحراج الدولي بعد كشف الحقيقة. ما جرى بعد ذلك كان أشبه بعملية إخراج لرقصة أميركية – روسية مشتركة قام فيها وزراء الخارجية وغيرهم بالتحرك بامتياز، حتى بدا الموضوع في النهاية وكأنه تجنب للحرب والسيناريو الأسوأ نتيجة مصادفات تاريخية محمودة.
الغريب في الأمر، وربما كان ذلك أيضا جزءا من الصفقة، أن أحدا لم يذكر شيئا عن التغير الحاد في موازين القوى الاستراتيجية الذي جرى في الشرق الأوسط. لقد جرى التوقيع على خروج لاعب أساسي (سوريا) من توازنات المنطقة، فلم يكن سرا أن الدول العربية، مصر وسوريا والعراق، حاولت موازنة عدم توقيع إسرائيل على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وامتلاكها سرا للسلاح النووي برفض التوقيع على معاهدة الأسلحة الكيماوية وامتلاك أسلحة كيماوية. لم يكن مثل هذا الردع كافيا، ويعاني من عدم التكافؤ، ولكنه كان يوفر قدرا من الردع إزاء دولة محدودة المساحة وقليلة السكان. والغريب أن العراق خرج من الساحة بعد أن قام صدام حسين بضرب حلبجة بالأسلحة الكيماوية قاتلا عراقيين أكرادا، وها هو بشار يخرج من المعادلة بعد ضرب ريف دمشق قاتلا مواطنين سوريين، ومن يعلم متى سوف يخرج من السلطة، ولكن بقاءه فيها سوف يكون مفيدا في إضعاف جماعات المعارضة المنتمية إلى جبهة النصرة و«الإخوان المسلمين» وكل من تحالف معهم من الراديكاليين.
الاتفاق الروسي – الأميركي هنا لا يبدو أنه سوف يخص الأسلحة الكيماوية فقط، فالمرجح أن موسكو وواشنطن لديهما إغراء كاف للمضي قدما لتحقيق اتفاقيات أكبر بعد نجاح هذه الخطوة الاستراتيجية الكبرى. وهنا فإن إشارات التواضع القادمة من طهران إزاء واشنطن، وقبول علي خامنئي القائد الأعلى لدولة إيران الإسلامية بالمنطق المعتدل للرئيس الجديد روحاني في التعامل مع الموضوع النووي يجعل سيناريو الأسلحة الكيماوية السورية يمتد إلى منع إيران من امتلاك الأسلحة النووية أو تأجيله على أقل تقدير، ليس من خلال صفقة مهينة مماثلة لما جرت لسوريا حينما تفاوضت باسمها روسيا، وجرى فرض شروط فورية عليها سارعت إلى قبولها.
فإيران لديها من الوسائل السياسية والدبلوماسية والعسكرية ما يجعلها تحصل على ظروف أفضل تجعل من السلاح النووي إمكانية في أوقات أخرى. ولعل ذلك هو سر الغضب الذي ألم بنتنياهو الذي بات يرى أن طهران في طريقها إلى الخروج من المأزق الدولي من دون ضربة عسكرية تؤدي إلى إزالة الخطر النووي الإيراني إلى الأبد.
وكان ذلك ما كان يراهن عليه نتنياهو خلال الفترة القصيرة الماضية، بحيث يدفع الولايات المتحدة دفعا لكي تكون في مقدمة القلقين من الخطر الإيراني الذي جسدته كلمات الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد الملتهبة، والتلاعب بعمليات تخصيب اليورانيوم الذي لم يعد أحد يقتنع أنه يتناسب مع البرامج السلمية الإيرانية. تغير الشرق الأوسط، وتغيرت توازناته نتيجة سيناريو لم يكن بين الأوراق، ويخرج عن السيناريو الأسوأ والأفضل معا!!

السابق
مؤسسة كهرباء لبنان: عزل محطة صفير في القبيات الرميل 9 ساعات
التالي
مبعوث إيران تغير لكن رسالتها كما هي