كومونة الطفّار

محمد علي مقلد

“الطفار” لفظة استخدمت في مرحلة ما قبل الجمهورية، في الدويلات الوراثية والسلطنات الموزعة على ولايات وسناجق وإمارات . هي صيغة معدلة ، بحسب الجغرافيا، لساحات نفوذ القبضاي أوالبلطجي أو غير ذلك من النسخ المحلية في كل منطقة .

مؤتمر الحجير الذي عقد في الجنوب اللبناني قبيل تأسيس لبنان الكبير قرر أن يغادر ولاية الطفّار إلى الجمهورية اللبنانية أو إلى مملكة الشريف حسين . لا فرق ، المهم أنه قرر المغادرة . ثم جاء بعد قرن من الزمان ، من ينبري لإعلان العودة إلى عهد الولاة والأمراء ، مع تبدل السلاطين ومراكز السلطنة .

عصر” الطفّار” في جنوب لبنان كان بمثابة تمرد على الدولة العلية تحت ذرائع شتى والمقصود واحد : نفوذ محلي يعود ريعه لمصلحة القبضاي ومن خلاله لمصلحة سيده في الخارج . تارة كان الجنوب يتبع عكا وتارة دمشق وأخرى تكون صيدا عاصمته ، يتغير الوالي والسلطان واحد أحد مقيم في الآستانة أو اسطنبول ، التي كانت تحمل اسم القسطنطينية قبل أن يغزوها الأتراك العثمانيون . ظاهر العمر وناصيف النصار وأدهم خنجر ، أسماء كبرى فرضت الظروف عليها التنحي ، إفساحا في المجال أمام دخول الجنوب اللبناني في عصر الجمهورية .

من سوء حظ الجنوب اللبناني أن دخوله في عصر الجمهورية ترافق مع النكبة، فصارت له قضيته، وكتب عليه أن يتحمل ، فضلا عن أعباء وجوده الجغرافي شمالي فلسطين ، تبعات وواجبات حيال الأمة العربية كلها من الجزائر على المحيط إلى العراق على الخليج .

في البداية كانت مدارس صيدا ، الأنجيلية والأخوة المريميين والمقاصد ، فضلا عن مقاصد النبطية والمدرسة الجعفرية في صور وغيرها من الكتاتيب . ثم جاءت المدارس الحكومية التي تناوب على التعليم فيها ” مواطنون ” لبنانيون من جبل لبنان وبيروت وحتى من الشمال ، وكان تجاوب أهل الجنوب كبيرا . فلاحون غادروا الزراعة ليعملوا حمالين في العاصمة ويؤمنوا لأولادهم علما يسيرا.

تخرج الجيل الأول من المتعلمين وأخذ على عاتقه تعليم الجيل التالي . أوائل المتعلمين الجنوبيين مالوا إلى اليسار ، وعلى أيديهم ارتفعت راية القضية القومية الأولى، قضية فلسطين ، إلى جانب قضايا العلم والخبز والحرية. كنا ، نحن ، أبناء هذا الجيل ، أوائل المشاركين في التمرد على الجمهورية ، لكننا لم نكن راغبين أبدا بالعودة إلى عصر الطفار، بل كانت طموحاتنا تتجاوز الوطن الجديد إلى آفاق أكثر رحابة وتمتد حتى حدود الأمة العربية أو إلى ما بعدها من حدود أممية .

جيل المؤسسين كان أوسع أفقا من جيلنا ، وأكثر ثقافة وأكثر ارتباطا بالأرض والوطن . أما نحن فكنا نميل ، مثل كل الذين يملكون بالوراثة لا بعرق الجبين ، إلى تبديد ثروة آبائنا . فأبدينا الاستخفاف بالوطن والاستقلال ورحنا نستبدله ، بل نهديه مجانا لسوانا ممن زعموا لأنفسهم قضايا واستخدمونا ووظفوا صدق انتمائنا إلى جيل التغيير والثورة ، فعبثنا وإياهم بنعمة الدولة والقانون والاستقلال ورحنا نرجم سايكس بيكو بأبشع الصفات وعيننا خارج الحدود على من يمنحنا بنادق أو خناجر نطعن بها أبناء وطننا .

ثورتنا بدأت ضد جيل المؤسسين ، ضد الاقطاع السياسي والديني. لم نكن نرى إلى أبعد من أنوفنا. جيل محسن الأمين وأحمد عارف الزين ومحمد جابر آل صفا وعبد الحسين شرف الدين وسليم جلال الدين وبولس الخوري ومحمد جواد مغنية وعادل عسيران وأحمد الأسعد كان أكثر تسامحا من جيلنا .لم نكن نعلم أن بدائلهم ستكون على شاكلة من يتولى شؤوننا اليوم من أنصاف المتعلمين والشبيحة وحديثي النعمة . مشايخ ” بلطجوا” على المشيخة ، وشبحوا على الألقاب . صاروا رجال دين ، رغم أنف المثل القائل ” الجبة لا تصنع الراهب” . نواب وممثلون أتوا إلى البرلمان من خلف المتاريس أو من المال الحرام . وجامعيون سطوا على شهاداتهم بالتشبيح الميليشيوي فقدموا للأجيال ثقافة هي عينها الجهالة الجهلاء وعلما لا علاقة له بالعلم .

انتبهنا بعد فوات الأوان إلى أننا كنا نقاتل نيابة عن سوانا . اليسار نيابة عن المقاومة الفلسطينية ودفاعا عن تجاوزاتها وعلى الجبهة المقابلة حركة أمل نيابة عن جشع النظام السوري ومطامعه في لبنان . حرب بدأت عام 1978 ولم تنته إلا بتقويض منظومة القيم السياسية والدينية والاخلاقية التي قام عليها الجنوب والتراث الشيعي والتفاعل الفريد بين المتنوعين فيه . من لا خير فيه لوطنه لن يكون فيه خير لسواه من الأصدقاء أو الاعداء . القوى التي استخدمتنا كان لكل منها قضيتها ، إلا نحن ، فقد ارتضينا لأنفسنا الدفاع عن قضايا سوانا ، فلا التجاوزات الفلسطينية حمت القضية ولا المخابرات السورية عملت لغير مصلحة الوصاية والنظام الأمني.

في رحلة الذهاب من الولاية إلى الجمهورية شهد الجنوب نهضة ثقافية وعلمية واقتصادية هائلة ، ولمع من أبنائه عشرات من الشعراء والأدباء وتخرج من جامعات لبنان والعالم مئات المتخصصين مهندسين وأطباء ، وبرع في المهاجر عشرات رجال الأعمال ، وانخرط في أجهزة الدولة العديد من رجالات الدولة وكبار موظفيها . في رحلة الإياب من الجمهورة إلى دويلة الطفار يبدو كل شيء مهددا بالسقوط ، وعلى الأخص معنى الانتماء إلى وطن والانسحاب من الدولة . فقد نبتت لغة أخرى ومصطلحات جديدة لم يعرفها تاريخ الجنوب ، وتبدلت قيم وانقلبت أخرى وتغيرت مفاهيم ، ووقع الوعي الشعبي ضحية استنفار الغرائز المذهبية ، مما بات يشكل خطرا على الوطن عموما ، وعلى الجنوب وأهله خصوصا . غير أن هذه الحالة المسدودة الآفاق لن تكون سوى غيمة عابرة سوف تنقشع بعدها غشاوات التضليل المذهبي المقيت ويزول النزوع إلى التقوقع ، ويعود الجنوب إلى حضن الوطن .

حتى الوجه المشرق من التمرد في الجنوب ، وجه الصمود والتصدي والمقاومة والشعر ، لم يسلم من التشوه على إيدي هؤلاء الأنصاف: أنصاف المتعلمين وأنصاف السياسيين وأنصاف المشايخ . لم يعد للشعر وهج الشعر. ولا الصلوات وحدها تبدأ بالبسملة ، بل الكتابة في إدارات الدولة والبلديات، ولا ترفع صورة رئيس البلاد ولا علم البلاد ، بل صور الشهداء والقادة المحليين والأعلام الحزبية، وتفشت قيم السرقة ، سرقة المال العام ، ممهورة بفتاوى المعممين ، ومن كل شيءعادت تفوح مجددا رائحة العقول المسحورة والوعي الاسطوري . لم يبق شيء قائما مما أسسه المؤسسون.

لكنها الحرب ، علمتنا بكلفة عالية ما كان علينا أن نتعلمه بالسلم . علمتنا أن الحرب ليست الوسيلة الصالحة لحل أزمات الجوع والبطالة وتطوير النظام السياسي . وأن حربنا الأهلية لا تختلف عن أي حرب أهلية ، فهي لن تنتهي ، أيا يكن ميزان القوى ، بغالب ومغلوب ، بل بهزيمة الجميع وتدمير الوطن . وأن لبنان صار حقيقة واقعة بعد قرن على ولادته ، ولم يعد مجديا البكاء على أطلال الثورة العربية الكبرى ولا على أنقاض المشاريع الوحدوية الشوفينية المليئة بالمزاعم . وأن الجنوب يحتاج إلى مؤتمر ” حجير ” جديد يطوي الصفحة القديمة أوالمتجددة من مشروع الطفار ويعيد الجنوب إلى حضن الدولة . الدولة التي نبحث فيها كيف نعيش لا كيف نتقاتل ، كيف نبني فيها مستقبلا لأجيالنا القادمة ، لا كيف نهدم وطنا بناه الأوائل . دولة المواطنة ، أي دولة الوطن الواحد والسيادة الواحدة والأمن الواحد بديلا عن المحاصصة والدويلات والمزارع. دولة القانون والمؤسسات والعدالة والكفاءة وتكافؤ الفرص والحريات والديمقراطية.

السابق
سلب مواطن عند جسر الكوكودي
التالي
طائرة استطلاع خرقت الاجواء