عكار: عن لبنانيين ابتلعهم البحر

مهاجرون الى استراليا

بعيداً عن الرثاء والألم الذين أصبحا جزءاً من حياتنا اليومية، لنتخايل المشهد من بدايته: عائلات أضناها الفقر وأعيتها البطالة. أفراد ربما لم يجدوا ما يقتاتون منه. لا أمل في هذه البلاد. بحثوا عن بقعة ضوء. فكّروا بالرحيل عن كلّ شيء. عن ذاك الذي نسمّيه وطناً وعن قراهم التي كان بإمكانها أن تكون جنة على الأرض لولا طمع المسؤولين اللبنانيين وتهافتهم على آخر نقطة من عرقنا. هجرة غير شرعية؟ فليكن. حياة الفقراء كلها تكاد تكون غير شرعية. لا مكان للأخلاقيات هنا. الهرب هو الحل الوحيد.
وضعوا ماضيهم على كفة والمستقبل المجهول على كفة أخرى في مشهد سوريالي يذكّر بتهافت الإيرلنديين وأفراد من جنسيات أخرى على “الحلم الأميركي” للحصول على قطعة أرض مجانية في اوكلاهاما عام 1893 في فيلم “Far and Away” “، الذي لعب بطولته الممثلان توم كروز ونيكول كيدمان. يتكبّد البطلان في الفيلم مصاعب جمّة للوصول إلى وجهتهم، الأوّل هرباً من الفقر والثانية هرباً من الإقطاع. الأرض الموعودة في المشهد اللبناني الواقعي كانت “اوستراليا”. ترى كم من الأحلام حاكها أبناء قبعيت العكارية عن الغربة المنتظرة؟ هل دفعوا مدخراتهم كلّها ليصعدوا على متن “قارب النجاة”؟ وماذا وضبوا بين حاجياتهم؟ ماذا قالوا لأحبّائهم؟ هل أطلقوا وعوداً بأن يرسلوا إليهم قوارب نجدة حين تستقر أمورهم؟
في الفيلم، كان المحفّز الأوّل للبطلين اقتناء قطعة أرض خاصّة بهما. هنا في عكّار، الأراضي “على مدّ عينك والنظر”. لكنّ أبناء المنطقة باتوا يرونها أراضٍ عقيمة لا تحمل ثمراً. لذا وضّبوا أحلامهم التي لم تسعها مياه أندونيسا، والرابح الوحيد هو التاجر الذي أرسلهم لملاقاة حتفهم، سواءً قام بذلك عمداً أو عن غير قصد.
هل تشابكوا الأيادي وهم يشعرون بالقارب يغرق؟ هل ندموا أم أنّهم فتحوا صدورهم لتلقي الرهان الخاسر؟ أو ربما انتظروا بتوتر كما ينتظر المقامر قرار الروليت؟
السلطات اللبنانية استيقظت فجأة: لكن لماذا؟ لانتشال الجثث.
ابتلعهم البحر المالح والحكاية لا تحدث كما في قصص الأطفال. لا مملكة ولا أخطبوط ناطق ولا عروس بحر بانتظارهم في قعر المياه. الجثث تطفو على السطح والدولة تنتشلها. رحيلهم لن يحدث فرقاً في المعادلة السياسية ولن يتحرك أحد لمكافحة الفقر المزمن في عكار. الفقر الذي دفع عجوزاً من قرية الشيخ طابا في العام الماضي إلى الانتحار. خبر موته مرّ سريعاً في شريط الأخبار. لم يزر أحد أفراد عائلته ليطمئن عليهم.
17 لبنانياً غرقوا في البحر. هؤلاء أيضاً سيبتلعهم النسيان.

السابق
باسيل: أكبر وأخطر أزمة شهدها لبنان وأصبحنا شعبين في دولة واحدة
التالي
السفير : “عبّارة الموت”: بحر إندونيسيا يبتلع عشرات اللبنانيين