أبو نعيم بزي: رحيل سنديانة بنت جبيل

ابو نعيم بزي

هدمت إسرائيل ما هدمته في بنت جبيل خلال عدوان 2006، وغيرت أطنان الصواريخ والقذائف، التي ألقتها طوال 33 يوماً، بعض معالم المدينة. لكن ثمة معلم روحي يحفظه الجميع من مختلف أجيال العاصمة الحدودية، “عن ظهر قلب” ويشكل لهم الرمز: “أبو نعيم”، واسمه إبراهيم نعيم بزي، الشيوعي الأول الذي اعتنق الأيديولوجيا وأسسال خلية الحزبية الأولى في بنت جبيل، وظل حتى الرمق الأخير مزهواً بهويته “الحمراء” ولم يتبدّل.

في شهر آب المنصرم، أغمض “أبو نعيم” عينيه بهدوء تام والتحق برفاق دربه، الشيوعيين الأوائل ومناضلي بنت جبيل. رحل ا البنتجبيليّ المخضرم عن 96 عاماً (في 10/8/2013). هو الذي قضى، مفارقاً دنياه، ثملاً بـ”خمرة” نعيم المعرفة العميقة حتى الجمام.

 فقد كان مناضلاً عريقاً ومثقفاً كبيراً، وإيديولوجيّاً شيوعيّاً عتيقاً، حتى رمقه الأخير. أحاطت بطفولته ظروف معيشية صعبة، فاضطر إلى أن يغادر المدرسة في عمر مبكر، لكن عشقه اللامحدود للمعرفة جعله واحداً من رموز التّعلُّم الذاتي التي يتماثل بها كل ذي بصيرة متوقّدة على مرّ الأجيال.

 في 27 نيسان من عام 1936، زار “الرفيق” فرج الله الحلو وكان اسمه المستعار”فريد”، مدينة بنت جبيل والتقى خمسة من شبانّها هم: محمود ومحمد وحسن سعيد بزي، محمد نجيب بزي، وإبراهيم نعيم بزي؛ وبعدها تأسس الحزب الشيوعي في بنت جبيل.

 ظل المناضل إبراهيم بزي طوال عمره، مسكوناً بالاشتراكية والشيوعية، يطالع كتبها بنهم، حتى مع تخطي عمره التسعين بنحو خمس سنوات. كذلك كان مسكوناً بعشقه لبنت جبيل، التي ناضل في صفوف “ثوارها” ضد احتكار الريجي. وبقي إلى أيامه الأخيرة يستقبل في بيته، الذي أعاد بناءه بعد تدمير كليّ في عدوان 2006، زوذاره من أبناء المدينة، ليس بالضرورة أن يكونوا من أبناء جيله، لأن ثمة علاقة بينه وبين كثيرين على مختلف أعمارهم وانتماءاتهم، الذين كانوا يرون فيه أباً روحياً.

المحاصر بالكتب

يوم زرته مرة في غرفته المحاصرة بالكتب، في بنت جبيل، كان يقلب صفحات كتاب على قدر كبير من السماكة، ورداً على سؤال أجاب: إنه كتاب “بلدي” لرسول حمزاتوف، الشاعر المعروف ابن داغستان الواقعة في القوقاز بجنوبي روسيا. وصار بعدها يروي حكايته مع الكتاب التي يعتبرها حكاية تلازم ومبدأ “فمن لا يقرأ كمن يكون وجهه من دون عينين” مقتبساً عبارته من مكسيم غوركي أو ربما غوستاف. قرأ “أبو نعيم” وأعاد أكثر من مرة كل كتب مكسيم غوركي ورواياته، وجبرا إبراهيم جبرا، وكتابات الخوري طانيوس منعم، حتى ثقف نفسه بنفسه؛ وهو إلى ذلك كان معجباً جداً “بالثوري الأديب محمد دكروب فهو جيد أحبه وأحترمه. أنا أعتبرته مثل مكسيم غوركي الذي كان عتالاً على البور (الميناء)؛ ودكروب سمكري ابن سمكري، وهو من بسطاء الناس العاديين، مثقف وثقافته عالية جداً وكان يكتب في مجلة الطريق”.

في مطلع نيسان سنة 1936، انطلقت التظاهرات في بنت جبيل ضد احتكار شركة الريجي لزراعة التبغ وهيمنتها على لقمة المزارعين. لم يكن”أبو نعيم” قد تجاوز الثامنة عشرة، لكنه التحق بصفوف المتظاهرين مطالباً بالإفراج عن المساجين الذين اعتقلوا، قبل اعتقاله هو بأيام قليلة. وفي اليوم التالي من مشاركته في التظاهر ألقي القبض عليه مع جواد شرارة ونقلا إلى سجن الرمل في بيروت، وأبقيا قيد التوقيف شهراً كاملاً. يقول الراحل: “خرجنا بعد تحقيق من المدعي العام الفرنسي في ذاك الوقت، وكان اسمه “مسيو تانباك”. اعترفنا بمشاركتنا في التظاهرات ضد شركة الريجي التي تظلم الفلاحين. سألني عن عملي وقلت: أنا تاجر، إذ كنت أبيع ثياباً. ثم سألني: وما علاقتك بالفلاحين ما دمت تاجراً؟ فأجبت أن الفلاحين يشترون من عندي. فثار غضبه وقال بالفرنسية: Taisez-vous; vous êtes rouges” “ (أقفل فمك، أنت أحمر) وكنت وقتها قد بدأت أميل إلى الشيوعية”.

مدرسة السجن

في السجن تعرف إلى شيوعيَّيْن هما: فرج الله حداد وشارل أسطفان. أدركا هواه في مطالعة جبران خليل جبران، فراحا يتحدثان عن جبران وأقنعاه بأن جبران شيوعي. فاستهوته هذه الشيوعية: “خصوصاً أن جبران أحد أركانها؛ ثم علمت لاحقاً أن جبران لم يكن شيوعياً ولا مرّ من أمامها، لكنني كنت قد لبست الشيوعية ولبستني”.

خرج بزي ورفيقه جواد شرارة من السجن من دون محاكمة، نظراً لصغر سنيهما وبعدها صار شيوعياً وراح يشارك في لقاءات الحزب، حتى تعرّف إلى شخص اسمه “فريد”، تبيّن لاحقاً أنه فرج الله الحلو. كان يجتمع معه في بيت عند شارع مار مخايل قرب طريق النهر، في بيت آرتين مادويان: “ثم أتى الحلو مرتين إلى بنت جبيل، وكان مثالياً في شيوعيته ومتمرّساً جداً فتأثرنا به تأثراً شديداً”. بعدها أسّس “أبو نعيم” خلية من 8 شيوعيين، وظل يؤمن بالشيوعية كفكرة ومبدأ، متبعاً ما قرأه من أدب اشتراكي لغورغي وجورج أمادو وكتّاب عديدين. ولتأثره كثيراً بالأدب الاشتراكي، كان يعتبر أن السياسة تتبع للأدب السياسي، المعتمد على ضوابط علمية أيديولوجية. كتب مرات عدة و”ذهبت هذه الكتابات أدراج الريح”. مع أنه نشربعض كتاباته في مجلة «الطليعة» التي كانت تصدر في سوريا، ثم صارت هذه الطليعة في ما بعد مجلة “الطريق”. ولذلك لم يحمل “أبو نعيم” السلاح. لأنه كان قد أخذ عهداً على نفسه بأنه لن يقتل أحداً أو يلوث يديه بالدم.

حين افترقا…

بعد احتلال العدو الإسرائيلي مدينة بنت جبيل، عام 1978، غادر أبو نعيم إلى بيروت، وبقي بعيداً عنها مدة طويلة ثم عاد واستقر فيها، حتى أتت حرب تموز 2006، فبقي صامداً فيها مدة عشرين يوماً محاصراً في “الكاراج” هو وزوجته وبعض الجيران. ماتت زوجته نتيجة فقدان الطعام والعلاج، وخرج خلال الهدنة مع جثتها إلى صيدا حيث تسكن ابنته فواراها هناك.

 إلى يوم وفاته، بقي أبو نعيم يتحسر على الأيام الجميلة، أيام النضال في بنت جبيل التي كان يعتبرها أفضل من اليوم: “كانت في بنت جبيل دينامية وحيوية. كانت الناس قبضايات في ما مضى ولا أروع أو أطيب؛ أتذكر كثيرين منهم جواد شرارة وحسن سليم مصطفى وحسن سعيد بزي ومحمود بزي، والدي نعيم وغيرهم. حقّاً كانوا جيدين وقبضايات”.

السابق
رسالة من روحاني إلى الغرب: ملتزم بتحقيق تعهداتي لشعبي
التالي
حزب الله يقرأ إيجاباً التواصل الإيراني الأميركي السعودي