حتى لا يتحوّل الثأر إلى حرب مذهبية

عرسال كانت دائماً جزءاً من سوريا، رغم أنّها جغرافياً وانتماءً هي من تكوين لبنان. لبنانية “العراسلة”، ليست موضع فحص مختبري، لكن مثل كل البلدات في العالم التي تشكّل “نقطة قطع ووصل” بين دولتين، تكون “جسراً” لعبور كل المواد المهرّبة من وإلى الدولة الأخرى. التهريب ليس حكراً لأحد. كما يجري تحميل البرادات والغسالات والخبز في أيام السلام من عرسال إلى “النبك”، كذلك يتم تمرير صهاريج المازوت وغيرها من سوريا إلى لبنان. مثل هذه العمليات تنسج علاقات خاصة بين سكان الحدود، بحيث يصبح “العرسالي” يعرف أهالي “النبك” وغيرها فرداً فرداً، والعكس صحيح. أهل عرسال لم يكونوا خارج بيئتهم “البعلبكية” يوماً، وهم كالبعلبكيين لم يعرفوا المذهبية والتشدّد الديني، حتى دخل “حزب الله” إلى منطقة بعلبك الهرمل، ونجح في التمدّد في نسيج العائلات الفقيرة والصغيرة، دون أن ينجح في اختراق العائلات الكبيرة والعشائر. لعل النجاح الكبير جاء في دخول أصحاب العمائم إلى القرى البعلبكية وتمدّد خطابهم في أهلها. أهل البقاع الشمالي، دخلوا على التديّن والمذهبية حديثاً، عكس الجنوب حيث التديّن جزء من الحياة اليومية للجنوبيين منذ عقود طويلة. التغيير الوحيد الذي يعيشه الجنوبيون هو دخول “الثقافة المذهبية الإيرانية” بكل طقوسها على يومياتهم.
أمّا “العراسلة” فإنّ “سنّيتهم” لم تتظهر موقفاً ولا ممارسة. بالعكس انتشار تسمية الأهل لأبنائهم بأسماء الأئمة علي والحسين ممارسة طبيعية، لا خلفية لها سوى هذا التزاوج الصحي الناتج عن الابتعاد عن “المرض السرطاني” أي المذهبية. ربما أكثر ما ساعد “العراسلة” على هذا الموقف والممارسة انخراط شبابهم باكراً في الأحزاب الوطنية وتقديمهم عشرات الشهداء، حتى عندما وقعت الواقعة في الستينات ودخل الحجيريون (آل الحجيري) وآل أمهز في حرب ثأرية طويلة، لم تخرج تلك “الحرب” من المتاريس، كان القتال رجالاً في مواجهة الرجال، وليس ممارسات لا علاقة لها بأخلاقيات العشائر مثل الخطف وطلب الفدية. وانتهت تلك “الحرب” الصغيرة بمصالحة عشائرية رغم سقوط عشرات القتلى من دون أن تتمذهب أو تكون بين عرسال واللبوة أو أي قرية أخرى.
اليوم، ما يجري بين عرسال وبعض العشائر مثل أمهز وجعفر والمقداد، جزء من الحرب السورية، مهما كان هذا التوصيف قاسياً. عرسال جزء من الجبهة السورية المحسوبة على الثورة بكل امتداداتها من الجيش السوري الحرّ إلى “النصرة” وإلى باقي التنظيمات الإسلامية الأصولية المستوردة والمتمدّدة داخل النسيج السوري بفعل الحرب ومآسيها وتخلي العالم عن الثورة باسم ما صنعه سواء عن قصد أو عن إهمال، أو سوء تقدير. في كل الحالات تعدّدت الأسباب والنتيجة واحدة.
العشائر التي وقعت في صدام مع “العراسلة” ليسوا بالضرورة أنصاراً للنظام الأسدي السوري، ولا هم “أبناء” “حزب الله” المطيعون، لكن كما يحصل في مثل هذه الحرب حيث لا يعرف أحد مَن ينصب لشقيقه، فكيف لعدوّه، الفخ تلو الفخ تحقيقاً لمصلحة معلومة أو كامنة أو حتى سرّية، فإنّ الانزلاق في فخ الصدامات يكون من نوع الغرق في الرمال المتحرّكة. ما يعزّز هذا، أنّ ما يحصل دخيل على منطقة بعلبك الهرمل. عمليات الثأر لا تجري هكذا أولاً، ثم انّ علي الحجيري رئيس بلدية عرسال، ذهب إلى رأس بعلبك التي تبعد عن عرسال حوالى ثلاثين كلم بأمان، فلماذا لم يتم ضمان أمنه حفاظاً على الاستقرار في المنطقة، وتُرِك لمصيره في كمين نُصب في موقع بين النبي عثمان واللبوة، عليه ألف سؤال وسؤال بينها: مَن أبلغ الكامنين عن وصول السيارة المستهدفة بدون حماية؟ من حق أهل المنطقة أن يعرفوا حتى لا ينزلقوا إلى الرمال المتحرّكة السورية ويغرقوا في حرب بدايتها ثأرية ونهايتها مذهبية؟ أيضاً حتى لا يتحوّل البعلبكيون والهرمليون، إلى وقود للحرب السورية بعد أن أصبح “حزب الله” “رأس حربة” للمشروع الإيراني باسم “الشراكة الكاملة لشيعة علي بن أبي طالب”؟
بعيداً من كل الانتماءات السياسية والحزبية الضيّقة، جريمة كبرى وكبيرة وقوع حرب بين عرسال ومحيطها الشيعي. مثل هذه الحرب يريدها النظام الأسدي تأكيداً لتحوّل الثورة في سوريا إلى حرب مذهبية مرفوضة. “حزب الله” لا يمكنه التنصّل من تمدّد “زيت” هذه الحرب إلى منطقة بعلبك الهرمل، تحت شعار أن لا علاقات له مع العشائر وهو غير مستعد لإحراق أصابعه في انتشال “الكستناء” العشائرية. أيضاً تقع مسؤولية كبيرة على “المستقبل”، لأنّه كما أرساه ومكّنه الرئيس الشهيد رفيق الحريري حزباً علمانياً يؤمن ويعمل لاستقلال وسيادة لبنان، في العمل مع “العراسلة” ومع الكثير من وجهاء العائلات والعشائر الشيعية، لضرب محاولات “مذهبة” الخلافات التي تتداخل فيها صفقات التهريب وأموالها الكثيرة، خصوصاً بعد أن تمدّدت من الحاجات اليومية إلى السلاح والذخائر.

السابق
منصور: لبنان الرسمي لا يوافق على الخطف
التالي
عراجي: الامور الخلافية يتم بحثها على طاولة الحوار