الانتحار الطائفي: حرب السنة والشيعة

 هذا الأسبوع، بينما كنتُ أقود سيارتي في بيروت، طلبتُ مساعدة أحد العاملين في موقف للسيارات. فقد كانت توجد على جانب الطريق نفايات مرمية في الشارع يبدو أنّها سقطت من إحدى الشاحنات. نظر العامل في الموقف الى كومة النفايات وأدلى بملاحظة رابطاً بين الكومة وبين أحد أحياء بيروت الذي يُنسب إليه أبناء إحدى الطوائف.



خطر لي أنّ هذا الشاب الذي لا يزيد عمره عن 25 عاماً، لا يذكر شيئاً من الحرب الأهلية في لبنان. فلو كان يذكر شيئاً لفكّر مرتين قبل أن ينصاع الى طائفيّة مثيرة للإشمئزاز لا تجلب سوى الأسى، والدمار، والندم.



قبل سنوات قليلة، كتبتُ كتاباً يحمل عنوان "أشباح ساحة الشهداء The Ghosts of Martyrs Square"، اعتبرتُ فيه أنّ الطائفية رغم أخطائها العديدة، خلقت حقيقة اجتماعية عزّزت التعددية اللبنانية. فلأنّ الطوائف الدينية كانت أقوى من الدولة، ولأنّ الدولة هي العدو الأوّل للحرية في الشرق الأوسط، كان لبنان يتمتع بحرية أكبر وبانفتاح أكبر من البلدان المحيطة. في هذه المجالات التي خلقتها الطائفية، استطاع الأفراد بشكلٍ عام أن يعملوا ويفكّروا كما يحلو لهم، وأدعو ذلك بالليبرالية الغريبة [كونها تناقض الرأي السائد]، لأنّها تتولّد من نظام طائفي، وهو ليس سوى نظام ليبرالي حر.



والطبيعة الليبرالية لهذا النظام تجلّت أمامي من خلال كلام العامل في الموقف. فعندما تبلغ التوترات الطائفية نقطة الانفجار، تطّل الطائفية بوجهها البشع، ملتهمةً كل ما يظهر أمامها.



أما الأمر الذي يبعث على القلق أكثر من أي شيء آخر فهو أنّ الحقيقة مختلفة. فلنأخذ مثلاً الاتهامات السنية المتزايدة للشيعة بسعيهم وراء أهداف طائفية. ولكن هل الأمور واضحة المعالم الى هذه الدرجة؟ ليس حقاً. فخلال الأسابيع الأخيرة بُذلت جهود من قبل شيعة مناوئين لـ"حزب الله" لإدانة دخول الحزب في الصراع السوري. وفي مظاهرة لهم أمام السفارة الإيرانية من تنظيم أحمد الأسعد، قُتل رجل هو هاشم السلمان نتيجة تعرّضه لطلق ناري.



وحصل ذلك فيما باتت شخصيات شيعية أخرى أكثر صراحة في التعبير عن إدانتها لـ"حزب الله"، أو دعمت علناً الثورة على نظام بشار الأسد. إحدى هذه الشخصيات هو السيّد هاني فحص، رجل الدين الشيعي الذي أيّد في الماضي الثورة الإيرانية. "منذ أيامها الأولى، لطالما أيّدت الثورة في سوريا. على الشيعة أن يتخّذوا موقفاً منسجماً مع عروبتهم، وانتمائهم اللبناني، وتاريخهم: لطالما كانوا الى جانب المضطهدين ضد الظالمين" يؤكّد قائلاً.



بمعنى آخر، تستخدم الطائفية ريشة واسعة لرسم حالات متنوعة جداً، وحيث تخبرنا الاستثناءات الكثير. ففي حين يورّط "حزب الله" لبنان في حرب مجاورة له، الشيعة هم من بين أوائل من سيدفعون الثمن. وقد سبق لأفراد عائلات مقاتلي "حزب الله" الذين قتلوا في سوريا أن دفعوا الثمن، بينما يجد الشيعة العاملون في الخليج أنفسهم يوماً بعد يوماً مستهدفين من قبل السلطات هناك ويُجبرون على ترك البلاد، وبالتالي تُقطع أرزاقهم.



 وحتى معالم النقاش الطائفي غامضة. فالعديد من اللبنانيين يتصرفون اليوم كما لو أن ثمة تقليدا طويلا من العداء السني- الشيعي. وهذا غيرصحيح فالطائفتان قاتلتا على الجبهة نفسها خلال سنوات الحرب. وفي العديد، إن لم نقل معظم مناطق بيروت الغربية، يعيش السنة والشيعة جنبا الى جنب ولذلك فأي صراع طائفي من شأنه أن يؤذي الطرفين، وأن يمزّق نسيجاً اجتماعياً مُدُنياً لطالما كان موجوداً.

ولا حتى "حزب الله" يدخل سوريا فعلياً من أجل أهداف طائفية. فدعمه لنظام الأسد يتعلّق أكثر بمصالح الحزب الاستراتيجية وحاجته للحفاظ على خط مواصلات يصل الى الساحل السوري ومرافئه في حال حصول صراع مع إسرائيل، وهذا يهمّه أكثر من أي صلة روحية إيديولوجية- دينية تجمعه بالطائفة الشيعية.



البعض سوف يتذكرون أنّه عام 1973، أصدر رجل الدين الشيعي- اللبناني موسى الصدر فتوى قال فيها إنّ العلويين يشكلون فرعا من الإسلام الشيعة. وحصل ذلك في وقت أصدر فيه نظام الأسد الذي تسيطر عليه غالبية من الطائفية العلوية التي تُعتبر أقليّة، مشروع دستور لم يُذكر فيه الإسلام كدين للدولة السورية. ما أدّى الى قيام مظاهرات والنظام، الذي أخذ مدهوشاً [بردة الفعل هذه]، سعى للحصول على شرعية دينية. وهكذا وجد الصدر، الذي كان يبني علاقته بدمشق حينها، نفسه مضطرا لفعل ذلك.

غير أنه كما لاحظ العالم فؤاد العجمي، كان هذا أشبه بالتدبير السياسي البراغماتي أكثر ممّا عبّر عن موقفٍ معتمد في أية عقيدة. "كان العلويون حاملي ديانة باطنية [مقتصرة على فئة معينة]، يضعها السنة والشيعة على حد سواء خارج نطاق الإسلام"، كتب العجمي في كتابه "الإمام المُغيّب"، الذي يتناول سيرة حياة موسى الصدر.



لا نقصد بذلك القول إنّ علويي سوريا لا يشعرون بأنهم يشكّلون جزءاً من إئتلاف أوسع من القوى الممتدة من إيران الى لبنان مروراً بالعراق. ولا هو يعني أنّ أعضاء هذا الإئتلاف لا يتشاركون الشعور بالتضامن في وجه الغالبية السنية في المنطقة. ولكن عندما نرسم حدودا طائفية صارمة كما يميل البعض الى فعله هذه الأيام، ثمة نزعة الى إبراز الأبعاد الطائفية لهذه الحقيقة والى إخفاء الأساس السياسي المنطقي الكامن خلفها.



وعندما يعلو البعد الديني أو الإيديولوجي على سواه، تكون ردة الفعل المضادة هي أيضاً إيديولوجية أو دينية، وتصبح القدرة على السيطرة على الأمور أصعب بعد ذلك. وحينها نرى أصحاب الخطاب التحريضي الملتحين يخرجون أمام الجماهير، ويدعون للجهاد مدّعين أنّهم يتحدّثون باسم الله والفضيلة، ولا يقبلون بأية تسوية ويرفضون الإحجام عن جموحهم.



عندما نكون سجناء صراع يحدّده هؤلاء الناس، نكون قد ضعنا بالفعل. ولبنان ميّال بشكل خاص الى أن يكون لعبة في أيدي دجالين شعبيين. ولكنّنا عشنا حرباً كان يجب أن تكون قد علّمتنا أكثر. وعوض أن نتعلّم منها، فإنّ من قادونا خلالها لا يزالون بيننا اليوم، وهم أقوى من أي وقتٍ مضى. لم نتعلّم حينها ولن نتعلّم اليوم. يبدو أنّ لبنان محكوم للإبد بالانجرار وراء الحروب.

 

السابق
النّازحون – اللاجئون من سوريا والدّولة القاصرة!
التالي
هذا هو واقع اللبنانيين في الخليج…