محاولة حذرة

 

أمام وزير الخارجية الأميركي، وقت حتى أيار/ مايو “المقبل” ليقدم تقريره للرئيس أوباما، مع تقديره الخاص، حول إمكانية نصب طاولة المفاوضات الثنائية، أم لا جدوى من الأمر.

إلى ذلك الحين، تستمر جولاته، تحافظ على طابعها الهادئ، مع التوكيد المستمر على خفض سقف التوقعات. من الأطراف الثلاثة، ما يدل على حذر الإدارة الأميركية، من الفشل الذي حصده الرؤساء السابقين، أثناء مقاربتهم ملف الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، حذر يتقاطع مع رغبة إسرائيلية، تستند إلى رؤية معلنة أفصح عنها رئيس الوزراء نتنياهو تفيد بضرورة تأجيل التسوية النهائية إلى إشعار آخر.

بينما الفلسطيني مدعو لخفض سقف التوقعات، أكثر من الأمريكي والإسرائيلي، إنه يقف على هرم من الوعود والضمانات والخطط، والمبادرات، التي لم تسفر عن قيام دولة فلسطينية تلبي شروط الحد الأدنى المقبولة وطنياً.

ما تقدم، لا يفسر وحده الحذر المصاحب لجولات جون كيري، بعد زيارة أوباما للمنطقة، بما أثارته من إشكالية التباين في قراءتها، وتحليل أبعادها، ودورها في العملية السياسية.

ما يفسر الحذر الزائد عند الأطراف الثلاثة، حقيقة بسيطة هي أن الرئيس أوباما، ورث ملفاً متخماً بالأوراق، والخلاصات الناتجة عن جولات التفاوض السابقة. لذا لا يحتاج من يتأبط هذا الملف، البحث أو اكتشاف النار والماء من جديد، بقدر ما يلزمه أسلوب عمل ينقل الحالة المتردية إلى سكة الترجمات العملية الواضحة. كما يحتاج الوضع الراهن إلى إعادة ترتيب خشبة المسرح، بعد أن تبعثرت قطعها، الواحدة تلو الأخرى. وهذا بالتحديد ما تحاول القيام به الدبلوماسية الأميركية بين تل أبيب وأنقرة مثلاً، لتسوية العلاقة بين أهم حليفين لواشنطن في المنطقة. إذ لن يندرج تموضعهما في إطار الاستراتيجية الأميركية الشاملة بينما الخلاف مستمر بين الدولتين الأقوى.

في الوقت نفسه، يتقدم دور الملك الأردني عبد الله الثاني للتموضع على الخريطة الفلسطينية، انطلاقاً من تجديد اتفاقية الوصاية الهاشمية، على الحرم القدسي، بما لا يتعارض مع السيادة الفلسطينية على المدينة المقدسة مستقبلاً. وفي هذا مسعى فلسطيني لتعديل نسبة القوى المختلة، عبر الحضور الأردني في صياغة مستقبل مدنية القدس ومقدساتها المسيحية والإسلامية كعاصمة لفلسطين الوطن، ولا دولة من دونها.

على الجانب الإسرائيلي، لا تظهر حتى الآن، إلا سياسات الدفع بالحالة الفلسطينية، نحو التأزم، وباستثناء الإفراج القسري عن الأموال الفلسطينية المحجوزة، فإن سلوك الحكومة الإسرائيلية، في معالجة قضايا الأسرى، وإطلاق النار المميت على المتظاهرين، أثناء احتجاجهم السلمي. دفعت بالرئيس أبو مازن لوصف الإسرائيليين “أنهم لا يريدون من حيث المبدأ، أي خطوة نحو السلام، ولا يريدون تنفيذ أي خطوة من الخطوات التي التزموا بها”.

هذا ليس كل شيء، فالصحافة الإسرائيلية، تطرح سؤالاً خبيثاً: “أين الانتفاضة الثالثة؟”. والمعنى في هذا، أن الانفجار الفلسطيني، من شأنه إعفاء إسرائيل، من أي استحقاق سياسي، متعلق بتطبيق خيار الدولتين. إنها خبرة إسرائيلية مستمدة من وقائع ومجرى الأحداث في الانتفاضة الثانية.

إنهم يدركون أهمية الانفجار الشعبي، ودوره في نسف العملية السياسية، وإلغاء متطلباتها إسرائيلياً، لمصلحة إعلاء راية “أمن إسرائيل” و”الخطر الوجودي”. وما ينتجه هذا الوضع من دعم مطلق لسياسات التطرف وتعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان.

إذاً، لا فرصة مناسبة للفكاك من أية توجهات لتحريك العملية السياسية، أهم من فرصة انفجار الحالة الشعبية الفلسطينية وتكرار سيناريو الانتفاضة الثانية.

دون هذا الاحتمال، تحاول الخارجية الأميركية، انتزاع مواقف جديدة، لجذب الطرفين للمفاوضات، عن طريق مقابلة إسقاط “الشرط” الفلسطيني، وقف الاستيطان، بإسقاط “الشرط” الإسرئيلي الاعتراف بيهودية الدولة، أو تأجيل ذلك ليصبح جزء من المفاوضات نفسها.

القيادة الفلسطينية طورت مطالبها إلى ما يشبه “وديعة رابين” حول الحدود والانسحاب وتطبيق قرارات الشرعية الدولية، ولسان حالها يقول لن نلدغ مرة أخرى بمفاوضات لا طائل منها.

هذا السلوك المبدئي للقيادة الفلسطينية، مضبوط على إيقاع المزاج الجماهيري الملتهب بعد استشهاد الأسيرين ميسرة وجرادات واستشهاد وجرح العديد من نشطاء المقاومة الشعبية السلمية.

إزاء هذا الوضع ثمة واجبات على الإدارة الأميركية تقتضي عدم تجاهل الرأي العام الفلسطيني وحالة الغليان المتصاعد، فإن لجأت واشنطن للضغط على القيادة الفلسطينية، فإنها تحمل الماء إلى طاحونة نتنياهو، وهذا ليس خافياً على الإدارة الأميركية.

إن السير للأمام في المفاوضات المنشودة، يحتاج إلى حوافز مقنعة للشعب الفلسطيني أولاً، وللقيادة ثانياً حتى تتمكن من إعادة بناء الموقف الداخلي، بعدما أصابه الكثير من العطب، جراء التجربة المريرة مع الإسرائيلي، ومع إدارة الرئيس بوش الابن.

إن الإدارة الأميركية، قادرة على معالجة ملفات التفجير (الاستيطان والأسرى) إن اعتمدت واشنطن، سياسة حازمة في المضمون، وإلا فإن مقاربة الحالة الفلسطينية بعيداً عن هذا لن تنجح في بناء جسور الثقة، ولن تستطيع جولات كيري حمل الطرف الفلسطيني على العبور إلى ضفة المفاوضات من جديد.

إن الإسرائيلي يملك كل شيء، بينما الفلسطيني يريد البناء على شيء مقنع أولاً، وله نتيجة عملية ثانياً. وإلا فإن مصير هذه المحاولة الحذرة لن يكون أفضل من سابقاتها.

* كاتب فلسطيني

 

 

السابق
ايران تعرب عن إستيائها من قيام العراق بتفتيش طائراتها
التالي
وثيقة مسربة عن تورط الجيش المصري في تعذيب مدنيين