لماذا 14 آذار، لا 14 شباط؟ 

ليست مصادفة ولا تفصيلاً أن فريق 14 آذار لم يولد في 14 شباط 2005. بمعنى أن اغتيال رفيق الحريري لم يكن كافياً لتكوينه. مرّت لحظته بشبه صمت كامل. لولا موقف وليد جنبلاط _ الرجل الوحيد الجالس إلى طاولة قريطم ذاك المساء _ لانتهى الزلزال كما اعتادت الاغتيالات السياسية أن تنتهي في لبنان: دمعة وكلمة ووريث يتعزّى بالتركة، ولو تسلمها مع قبلة من قاتل مفترض… حتى التشييع بعد يومين لم يكف لولادة 14 آذار. رحم الله نسيب لحود. دخل بعد التشييع مباشرة على لقاء قرنة شهوان متجهّم الوجه، متوتراً. قبل أن يُفهم الجميع اعتراضه على «حفلة الجنون» التي يركبون ويرتكبون باسم دماء الحريري. «السعودية ترفض هذا الانجرار. وهي لا تقبل بكل هذا الخطاب الذي تحاولون فرضه، ولن تمشي به. أقول لكم ذلك وأنا أعرف عمّا أتكلم، وأنتم تعرفون أنني أعرف»… قالها نائب المتن الرصين المطّلع، لبعض صقور «القرنة» الحالمين يومها بالطيران على أجنحة الـ1559.
بعدها بدأت الساحة تغلي، من دون لحظة ولادة. كان «المستقبليون» غائبين كلياً عنها. وحدهم «مجانين» ميشال عون وبعض المتمردين على تعليمات سجن سمير جعجع ومستقلون فرادى… ملأوها هيصة وأهازيج ورقصاً ليلياً. حتى إن قريطم طيلة الأسابيع الأولى التالية للاغتيال، كانت تتلقى يومياً صوراً فوتوغرافية من أحد الأجهزة الأمنية لرواد ثورة الأرز هؤلاء، وهم يحتفلون كل مساء بطقوسية ثورتهم الصاخبة الفرحة قرب الضريح، مع تعليق موجه إلى سيد قريطم الجديد: هؤلاء هم الحزانى على رحيل والدك!! سقطت حكومة عمر كرامي _ المظلوم دوماً _ في 28 شباط 2005، ولم يتحرك شيء، ولم تولد بعد 14 آذار.
للتاريخ، كما للتأريخ، كان على تلك الولادة أن تنتظر ثلاث إشارات لإنجاز مخاضها. أولاً على المستوى الداخلي، كلام السيد حسن نصرالله في 8 آذار تحت عنوان «شكراً سوريا». ثانياً على المستوى الإقليمي، إعلان الرئيس السوري بشار الأسد في 5 آذار أن جيشه سينسحب من كل لبنان قبل 30 نيسان 2005. وهو ما باتت له اليوم قراءات متناقضة كلياً. من رواية البارجة الأميركية التي شططت قبالة اللاذقية حتى إعلان الانسحاب في ظل كوما موسكوبية يومها، وصولاً إلى الرواية المقابلة عن عرض أميركي لدمشق بمجرد إعادة الانتشار إلى البقاع، وهو ما اعتبره الأسد «فخاً» ردّ عليه بقرار الانسحاب الكامل، و«تفضلوا أروني كيف ستديرون هذا المستنقع»… أما الإشارة الثالثة فكانت على المستوى الدولي، انطلاق أولى الخطوات العملانية والتنفيذية لبدايات المحكمة الدولية.
هكذا ولدت إذن حركة 14 آذار. لا من لحظة المعاناة، بل بعد التأكد من كل مقومات الفوز. في مرحلة الخطر، كان «الآذاريون» قلة قليلة. بعد التيقّن من الانتصار، كثر الآباء، حتى بدا الانتصار ابن عاهرة شديدة العهر. وهكذا بدا أن «فاتحي» 14 آذار احتاجوا أولاً إلى العصبية المذهبية في الداخل، كما احتاجوا إلى نعي رسمي دولي مصدَّق لبشار الأسد في لبنان، واحتاجوا أخيراً إلى ضمانة دولية ثابتة ونهائية بحمايتهم، ليقبلوا على استثمار «الثورة». ولو كان أي من هذه غير صحيح، لكانوا فريق 14 شباط، أو 16 منه، أو 28 في أبعد تقدير.
اليوم يعود فريق 14 آذار إلى ذكرى إجهاض ثورتهم قبل ثمانية أعوام. يعودون وهم يدركون أن العوامل الثلاثة التي اشترطوها يومها لولادتهم، قد انتفت. فلازمة حزب الله لم تعد صالحة للتعبئة لبنانياً على الأقل، خصوصاً بعدما باتت المرحلة مفتوحة على أخطار الأصوليات السنيّة ونذر «جهادييها»، على سنّة 14 آذار قبل غيرهم. وعلى المستوى الإقليمي لم يعد الأسد في لبنان، وفي خروجه لم تنفع كل الاستثارات في تعبئة الشارع اللبناني ضده، خصوصاً أن المشهد تبدّى عن مفارقة مطلقة: فالذين دمروا لبنان ذات يوم ليدخل الأسد إلى بيروت، هم أنفسهم ينذرون اليوم بتدمير لبنان مرة ثانية، ليخرجوا الأسد، لكن من دمشق! أما على المستوى الدولي، فلا محكمة دولية ولا من يحاكِمون، ولو بقي من العنوانين مجرد موعد آذاري شكلي، لا يستثمر إلا لخطابات يليها تأجيل، أكان في قاعة اسمها «بييل» أو في قاعة لاهاي.
غير أن «آذاريي» 14 آذار 2005 انتبهوا إلى المعادلة هذه السنة، وتنبّهوا إلى افتقادهم علة ولادتهم قبل ثمانية أعوام. فقرروا استلحاق الأمر وإعادة تكوين شرعية ثورتهم: محلياً، بالذهاب إلى مشروع موحد لقانون الانتخابات، يُنهي «مزاح» جورج عدوان وسامي الجميّل، ويعيد التراصف إلى الصف الأزرق وجيبه. ثانياً على المستوى الإقليمي، رفع شعار: الأسد سقط، يبقى السؤال «كيف نواجه محاولة إيران الحفاظ على «باسيجها» في لبنان بعد سقوطه، وثالثاً، محكمة بلغارية بدل المحكمة الدولية، وأوروبا أقرب إلينا من العم سام وأبقى. ماذا يعني هذا الكلام؟ الكثير الكثير، لمن يفهم بالإشارات.

السابق
لإعادة اكتشاف حال العرب والعالم
التالي
الطريق إلى السلسلة