في حيّنا أتاري

لم يكن في بيتنا تلفزيون. لم أعد أذكر إن كانت هذه حال معظم بيوت الهرمل، تلك البيوت التي كنّا نراها منذ أكثر من عشرين عاماً مدينةً بأحياء كثيرة. كان بيتنا في حيّ الضيعة، وكان علينا أن نقصد بيت الجيران نهاراً لنتابع برامج الأطفال التي تبث على القناة السورية، وفي المساء نزور بيت أحد الأقارب لمتابعة المسلسلات السورية والمصرية.
صار التلفزيون هاجسنا: ننقل برامج الأطفال ومسلسلاته إلى يومياتنا، أو ننتقل نحن إليها. صرنا نستعير من ألعاب أبطاله ألعابنا. نشتري بما تيسّر في جيوبنا سيارات كهربائية صغيرة، بأجهزة تحكم بدائية، ونقوم بتعديلها طيلة أشهر، لنخوض فيها سباقات سرعة وتحدّ. ننافس الكابتن «ماجد» والحارس «سيزار» في كرة القدم. نحوّل الشراشف إلى خيم ننصبها خفية ونلجأ إليها، طبيبات ومرضى، للمعاينة أو الاختباء.
هكذا استطعنا، ربما، تجاوز هذه «الخسارة» أو اعتيادها. استطعنا باستعارة ألعاب الصور المتحركة أن نتغلب على التلفزيون. لكن اللعبة الوافدة حديثاً إلى قلّةٍ من موفوري الحظّ في الحيّ كانت أقوى من القدرة على تجاهلها: إنها «الأتاري».

لم يكن غياب التلفزيون وحده ما يمنع اقتناء هذا الجهاز الجديد. هناك كلفة شرائه أولاً، وهناك أيضاً كلفة أشرطة الألعاب. وهي كلفة لم تكن «البسطة» الصغيرة التي كنا نبيع فيها ألواح الشوكولا التي نشتريها بالدين و«السحبة» التي نصنعها بأنفسنا، قادرة على تأمينها.
سريعاً، وجد أحدهم حلاً جماعياً يستفيد منه كلّ أطفال الحيّ: غرفة صغيرة وُضع فيها تلفزيون كبير، وُصّلت به «أتاري» صفراء اللون، وسط أشرطة الألعاب المتنوعة. وكانت في الغرفة أيضاً صور قادة وشهداء وعلم أصفر اللون يتهادى فوق رؤوس الأطفال الذين ينتظرون أدوارهم.

أذكر أن كثيرين التزموا الدور الذي أرادته الغرفة لهم، فانتقلوا مع مرور الوقت إلى غرف أخرى وأدوار أخرى. لكن بعضنا ترك الغرفة، ليس لأننا مللنا ألعاب الـ«أتاري» الساحرة، ولا لأننا انتبهنا إلى اللون الأصفر الذي يطغى عليها، بل لأن لعبة أخرى كانت تشدّنا إلى ملعبنا الذي كنّا نضع قوانينه وشروطه بأنفسنا: «تهريب الحشيش».
لم يكن بيننا «حراميّة». كنا ننقسم فقط بين شرطة ومهربي «حشيش». وكان على المهربين ابتكار وسائل جديدة لم يكتشفها رجال الشرطة بعد. كنّا نجمع، مثلاً، عشباً يابساً، ونوضّبه في إطارات مطاطيّة، نرميها في جهة من ساقية تقسم بستان منزل أحد اللاعبين. ومن الجهة الثانية، يتولى أحد أفراد العصابة استلام «رزمة الحشيش»، بعد أن ينقلها جريان الماء في الساقية. أذكر أن متعة غريبة كانت تنتابنا بينما نجتاز الحاجز، من دون أن تُكتشف «جريمتنا»، لقد كنّا نتمنى دوماً انتصار العصابة على الشرطة.

ظلّ التهريب لعبتنا لفترة طويلة. نتفنن في أساليبها شتاء، وفي الصيف، ننقلها معنا إلى قريتنا الجنوبية التي نزورها لأيام قليلة. هناك، تعلّمنا أساليب جديدة في تطوير سلاحنا الأقوى في تلك الفترة: «النقيفة». وصرنا نستبدل ذخيرتها من حبات البحص الصغيرة بحبوب الزنزلخت.
لكن العصابة التي كانت تهرّب «الحشيش» في البساتين نقلت لعبتها إلى الشارع. هل كانت مجرد لعبة تلك التي عشناها لاحقاً؟ عصابة فعلية، أفرادها أطفال لم يتجاوز عمر أكبرهم 14 عاماً، مسلحين بالعصي والحجارة وأحدث ابتكارات «النقيفة»، ومجهزّين بمراكز وممرات سريّة، وأدوار محدّدة تكّلف بها أجهزة دعم ومراقبة واتصال واشتباك.
لم يعد تهريب الحشيش لعبتنا. صرنا عصابات، وصار علينا أن نبتكر ما يلائم أدوارنا الجديدة: نجمع أوراق العريش، نقطّعها وننشرها تحت الشمس، ثم نلفّها بورق «الشام»، مكتشفين لأول مرّة متعة التدخين.

السابق
النور نوران والسلفيون أسلاف
التالي
وصول أول دفعة من العائلات السورية النازحة الى قطر آتية من لبنان