فتنة مذهبيّة لبنانية على الأرض السورية

التحذيرات من وقوع الفتنة المذهبية في لبنان أصبحت من الماضي. لبنانياً، الفتنة وقَعَت، وهي حيّة… وتُرزق، ولكن على الأرض السورية. وإلّا فماذا يُسمّى سقوط «الشهداء» للشيعة والسنّة اللبنانيين على ضفّتَي القتال الدائر في سوريا؟

عندما عادت جثامين المقاتلين من "حزب الله" إلى لبنان لتشييعهم في قراهم، بقي "الحزب" لأيام عدة حذراً في الكلام. هو لا يريد تأكيد مشاركته في أعمال عسكرية داخل الأراضي السورية، لكن استمرار سقوط المقاتلين لمدة طويلة، واستمرار استقبال الجثامين في القرى، بين الأهل والأقارب، لا يمكن أن يبقى طويلاً طيّ الكتمان. ولذلك، خرج "الحزب" بالتسوية: هؤلاء المجاهدون سقطوا في الدفاع عن لبنانيين شاءت مقتضيات الجغرافيا المحاذية للحدود أن يكونوا حيث هم.

في المقلب الآخر، لم يكن هناك أيّ كلام على مشاركة سنّية في القتال إلى جانب المعارضة. وعلى الأقلّ، لم تكن حتى التنظيمات الإسلامية السنّية تبوح بدور لها في المعارك الأهلية السورية. وفي اليوم الذي أثير فيه الجدل حول طبيعة الدعم الذي يقدّمه النائب عقاب صقر إلى "الجيش السوري الحرّ"، أو إلى المعارضة السورية، فوجئ الجميع بالكشف عن سقوط مقاتلين إسلاميّين لبنانيين وخطف آخرين، وهؤلاء كانوا في طريقهم إلى الانخراط في القتال إلى جانب المعارضة، قرب تل كلخ.

سارع تيار "المستقبل" إلى نفي علاقته بالمقاتلين، لكن اللافت أن قادة التيار ونوابه بدوا متفهمين لمشاركة هؤلاء في القتال ضدّ نظام الرئيس بشار الأسد، وأطلقوا على القتلى صفة "شهداء". وهكذا يصبح ممكناً القول إن دخول مقاتلين إسلاميين سُنّة من لبنان إلى سوريا بات يحظى على الأقل بالتفهُّم من جانب المعتدلين السنّة، ومنهم "المستقبل".

وتصبح المعادلة كالآتي: مجاهدون شيعة يحظون بتفهُّم من قادة الطائفة، يقابلهم مجاهدون سنّة يحظون بالتفهُّم من قادة الطائفة. ويتقاتلون في سوريا، بالنيابة عن القوى المعتدلة هنا وهناك… وبرضاها أو شبه رضاها، في حمص وجوار بعلبك – الهرمل كما في تل كلخ وجوار عكار وطرابلس.
العائدون ببذور الفتنة

عملياً، القتال المذهبي انطلق لبنانياً، لكنّ مارد الفتنة ما زال في القمقم السوري. وما من أحد كان يتصوَّر أن قتالاً مذهبياً لبنانياً، بالواسطة، سيقع في سوريا. ولو كان حتى اليوم في إطار ضيق نسبياً، فهو مرشح للاتساع مع الوقت. وأساساً قلائل هم الذين توقّعوا اندلاع الحرب المذهبية يوماً في سوريا.

وإذا كان القلائل هم الذين يخشون انتقال الشرارة لاحقاً عبر الحدود إلى لبنان، فذلك لا ينفي احتمالاته. فالمقاتلون العائدون من جهادهم في سوريا يمكن أن ينقلوا معهم بذور التوتر المذهبي إلى لبنان، حيث الأرض خصبة. ويجب الاحتفاظ بعربون تقدير للممثل السابق للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان مايكل وليامز الذي ختم ولايته في بيروت بتحذير مُبكر، في صيف 2011، صدم فيه الجميع، من إمكان انتقال الشرارة المذهبية السورية إلى لبنان. لكن هذا التحذير أطاحته القوى اللبنانية المنخرطة في معارك سوريا الأهلية، وعلى أساس مذهبي. فهي تجاهلت التحذير لواحد من سببين:

– إمّا لأنها تضع مصالحها الإقليمية فوق المصلحة اللبنانية، وهي تخوض في سوريا معركة حياة أو موت للمحور الإستراتيجي – المذهبي الذي تنتمي إليه.

– وإمّا لأنها تمتلك ثقة في القدرة على الحسم والانتصار سريعاً، بحيث يصعب على الخصوم أن يرفعوا رؤوسهم ويواجهوا، أي قبل أن تتكوّن العناصر الكفيلة بإشعال الفتنة المذهبية.

أيّاً تكن الصورة، فالدم اللبناني بفئتَيه الشيعية والسنّية قد أُريقَ وسيراقُ في المواجهة المذهبية، على أرض سوريا. سوريا التي لطالما لعبت على الخشبة اللبنانية "تراجيديا" الدم، شيعياً وسنياً ومسيحياً. والبقية تأتي… في سوريا، وربما في لبنان.

السابق
من سجن رومية إلى تلكلخ
التالي
تكتيكات القصف الثقافي