عنصرية عادية

لا ترمي العنصرية اللبنانية إلى تحقيق هدف بعينه. لا كيان سياسياً يجمعها محاولاً تصريفها على شكل مشروع سلطة. ولا طموحات لأنصارها بالتوسع في مؤسسات الدولة أو الاستحواذ على مدى جغرافي. هي متعالية على الانقسامات الأهلية والمحلية. الكل يشارك فيها ويرفدها بما تيسر من شبان مفتولي العضلات وشابات سليطات الألسن.
ما من استثناءات. فيتجدد كل بضع سنوات «بنك الأهداف» (بلغة الأجنحة العسكرية العائلية والحزبية)، من أهداف استقرت في قائمة «الكلاسيكيات» كاللاجئين الفلسطينيين والعمال السوريين، إلى أهداف حديثة تشمل من تسول له نفسه الترشح في الانتخابات إلى مقعد نيابي ورثه سياسي ما عن جده لأبيه.

في أسبوع واحد، تعرض العشرات من العمال السوريين والمصريين والسودانيين إلى ضرب مبرح من عناصر الجيش اللبناني في بيروت، وطردت شركة «طيران الشرق الأوسط» مضيفة تفوهت بعبارات عنصرية بحق عدد من العمال الأجانب. وشن أنصار تيار سياسي هجوماً بشعاً على الإعلامية مي شدياق لتلميحها إلى إمكان ترشحها عن مقعد نيابي في قضاء كسروان الذي يحتكر التيار المذكور مقاعده النيابية كلها.

الجيش اللبناني أصدر بيانين بعد اتهام منظمة «هيومان رايتس ووتش» له بالاعتداء على العمال الأجانب ودعوتها القضاء إلى التحقيق مع العسكريين الذين تورطوا في الحادث. البيان الأول شجب «التطاول» على المؤسسة العسكرية، مشيراً إلى أن تدخله جاء بناء على شكاوى الجيران. والثاني أكد فيه أنه سيستمر في تنفيذ «عمليات الدهم» الموجهة إلى العمال الأجانب الذين «يقومون بالتعدي على حرمات المواطنين والإساءة اليهم». والحال أن وسائل الإعلام التي استقصت آراء الجيران، حصلت على خليط من المواقف التي ينضح بعضها بما تصح تسميته «العنصرية البدائية» القائمة على الشعور بالتفوق والتميز عن الوافدين «الذين لا يحسنون التصرف» في المناطق المدنية «الراقية». لذا قررت دورية للجيش اختزال العملية القضائية والقفز فوق تعقيداتها، «بتأديب» العمال بقبضات الأيدي وأعقاب البنادق.

لا حرمات في العنصرية. اللاجئ كما العامل كما المصاب بمحاولة اغتيال إصاباتٍ تحد من قدرته على الحركة. كلهم معرّض للوقوع في براثن عنصرية لا هدف لها ولا أفق، في الغالب الأعم. وتحضر كاستثناء تلبية الحاجات الانتخابية والسياسية لهذه الجهة أو تلك. من التمييز واضطهاد العمال الفلسطينيين قبل حرب 1975 لتتجدد الممارسة هذه بعد انتهاء الحرب وإجماع اللبنانيين على تحميل اللاجئ وزر أخطاء الفصائل الفلسطينية المسلحة، إلى التنكيل بالوافدين السوريين فور انسحاب قوات بلدهم من لبنان في 2005، إلى تجدد الاعتداء على هؤلاء في الأشهر الماضية على خلفية تطورات الثورة في سورية.

لا قيمة ولا معنى لإدانة أخلاقية متعالية لتصرفات «الرعاع» أو «الغوغاء» المنتشرين بين أبناء الطوائف، كلها بلا استثناء. فالنقد الأخلاقي الفردي النخبوي، يظل قاصراً عن إدراك مصدر هذه العنصرية اليومية. وقد نكون في حاجة إلى تذكر فيلم المخرج الروسي ميخائيل روم «فاشية عادية» لننتبه إلى منابع الفاشية القريبة جداً منا. إنها في طريقة سيرنا. في لهجة حديثنا مع الآخر. في ما ننتظره ممن نعتبره دوننا مرتبة اجتماعية. في توقع الذل من الآخرين. في رقصاتنا الجماعية التي غيرت وظيفتها من التعبير عن اتحاد الجماعة في وجه الطبيعة وقسوتها، إلى تحدي الجماعة للآخر المختلف، حتى لو كان هذا عاملاً أتى من آخر الدنيا. في «الرجولة الفائقة» في أغاني مطربي «التستوستيرون».

لا تفسير لهذه العنصرية اللبنانية غير الفقر. الفقر إلى الأمل وإلى الاحترام وإلى الموقع الحقيقي في عالم لم يعد يقيم وزناً لكل ما ربى اللبنانيون أنفسهم على تقديره. إنها العنصرية العادية في زمن لم يعد فيه شيء عادياً.  

السابق
سياسة النأي تحصين للسيادة
التالي
عقاب صقر من بروكسل يعود الى لوائح المستقبل