سوريالية الثورة

قرأنا كتب الثورات، وردّدنا أناشيد الثوار وحفظنا حكاياتهم عن ظهر قلب. نقلنا بطولاتهم ملاحم وأساطير نعلّمها لأولادنا، من يوسف العظمة إلى سعيد العاص وسلطان باشا الاطرش وصالح العلي وابراهيم هنانو، ومن أنطون سعاده إلى سناء محيدلي وعلي غازي طالب وقافلة الاستشهاديين من القوى والأحزاب الثورية والحركات التي قاتلت ولا تزال في خندق المواجهة ضدّ العدو الصهيوني، العدو الأساسي وكلّ من يقف خلفه من قوى الاستعمار العالمي.
علّمنا أولادنا أن يحفروا هذا الإيمان في قلوبهم وعقولهم، وأن يكون شعاراً لبيتهم من جيل إلى جيل. تاريخنا هو ثورات ضد الظلم وضد الظالمين، ضدّ الغزاة والمستعمرين وأعوانهم الذين باعوا شعبهم وأوطانهم واستسلموا للمحتلّ. دماء الثوّار وتضحياتهم منارات في تاريخنا ترسم لنا طريق العزّة والكرامة.
أبطالنا الذين قاوموا المستعمر والمحتل بإمكانات متواضعة سطّروا مواقف عزّ تنشأ عليها نفوس الأجيال المقبلة وتنطلق من هذا الأساس في بناء مواقفها بناء راسخاً وصلباً على عقيدة المقاومة ورفض الاستسلام للعدو مهما بلغت قوته وجبروته.
إنهم قدّيسون وشهداء تحمّلوا الظلم والاضطهاد ودفعوا أغلى التضحيات لتكون لنا حياة أفضل. علّمونا أن الثورة حق مقدّس ضدّ الظلم والظالمين وأولويتها أن تقوم ضدّ الظالم الأكبر، ضدّ الغازي والمغتصب والمحتلّ.
ننظر إلى الثورة أنها عذراء طاهرة نقية لا يقترب منها إلاّ الأبطال الجبابرة المتميّزون بصفائهم ونقائهم وطهرهم الثوري. عرفنا الثورات التي تحمل رؤى وأفكاراً ثورية جذرية تنقض الواقع القائم بمجمله، ثورات قومية، اجتماعية، تحرّرية، موجّهة ضدّ الغرب الاستعماري ووكلائه المحليّين. لم تكن ثورات ملوّنة ولم يتلوّن ثوّارها ولم يتلوّثوا بالنفط والمال.
مع العصر الأميركي انقلب مفهوم الثورة وتعدّدت ألوانها وأسماؤها، لكن بالريشة ذاتها، ريشة الأميركي. تعدّدت التسميات والسيّد واحد هو السيّد الأميركيّ، من «الثورة البرتقالية» إلى «ثورة الأرز» إلى «ثورات الربيع العربي». ثورات هوليوودية، ممسرحة، متحرّكة نمطياً على إيقاع السيّد «آدم» الأميركي المخوّل وحده بتسمية «الثورات» إعلامياً وإبراز ممثّليها وممثّليه.
كنا نعلم أن الثورة قد يندس فيها مخادعون ومنافقون ومهووسون ومجانين ومجرمين، لكن لم نكن نعلم أن الثورة التي تستحق هذه التسمية يمكن أن يسيطر عليها مثل هذه الفئات.
من أولى «الثورات الملوّنة» حتى «الثورات العربية» لم نقرأ شيئاً حول أفكار هذه «الثورات» وبرامجها. نسمع شعارات مرفوعة ببغائياً تردد الديمقراطية والحرية والسيادة والاستقلال، عبر حشود تقودها شخصيات لا علاقة لها بالديمقراطية ورثت زعامتها وعملت على بناء أحزاب طائفية ومذهبية تديرها العائلة بمعاونة أزلام ومحاسيب. شخصيات غارقة في التبعية تنادي بالاستقلال والحرية من مداخل سفارات الاستعمار والاستعباد!
اللهمّ لا شماتة بالعاهات التي جاءت بها «الثورات» ولا بالمآسي التي أجلست على الكراسي، ولا بفضائح العصر في تونس وليبيا ومصر.
في سورية يبدو المشهد أكثر سوريالية، كأن الناس واقفون على رؤوسهم ولم نعد نعلم لغة للحوار ولا منطقاً.
هل نصدّق أن تقوم ثورة مُنظّرها الأول هو الداعر الصهيوني برنار هنري ليفي؟
هل نصدّق أن ثورة لأجل الحرية والديمقراطية ترعاها وتموّلها بالمال والسلاح دول الخليج العربي وتساندها شخصيات وحركات وأحزاب تابعة لهذه الدول؟
هل نصدّق أن تقوم ثورة بدعم تركيا الإخوانية العثمانية، هذه الدولة التي تحتلّ الأراضي السورية، كيليكية والاسكندرون، والطامعة باحتلال حلب ومحيطها، والمتطلعة إلى إعادة المجد العثماني باسم الإسلام الإخواني؟
هل نصدّق ثورة تدعمها أميركا والغرب؟ هل نصدق أن دعاة التدخل الأجنبي ثوار يريدون الخير لشعوبهم وأوطانهم؟
هل نصدّق أن الإمبريالية الأميركية وحلفاءها في الغرب الرأسمالي ومعهم الدولة الصهيونية الغاصبة يريدون لنا حرية وديمقراطية وسلاماً وازدهاراً؟
هل الأفعال التي نشهدها في سورية هي أفعال ثوّار يريدون التغيير نحو الأفضل؟
هل تقوم الثورة الوطنية بتدمير المؤسسات الوطنية والمنشآت العامة ؟ وهل يمكن أن تقوم بجرائم القتل والذبح في حق المدنيين والأبرياء من دون سبب؟
هل الجرائم المذهبية والطائفية ونهب الكنائس والأديرة وحرقها وتدميرها هي من أعمال ثورة وطنية؟
هل يمكن تسميتهم ثواراً أولئك الذين يعيشون تحت رحمة المال القطري والسعودي ويتلقون رعاية ومساندة من التركي والأميركي والحلف الغربي وصولاً إلى الكيان الصهيوني؟
إنها ليست ثورة.
هذه حرب أميركية كونية مخطّط لها منذ أواخر القرن الماضي. إنها مشروع التفتيت الذي يطال كل العالم العربي ولا يستثني أي دولة، سبق للصهيوني برنارد لويس أن قدّم هذا المشروع الذي حظي بموافقة الكونغرس الأميركي منذ ثمانينات القرن الماضي.
إنها حرب التفتيت وإلغاء وجودنا كشعب وأمة وجعلنا قبائل وطوائف ومذاهب متناحرة.
الثقافة والإعلام هما أخطر أدوات هذه الحرب، هنا تكمن خطورة الفكر التقسيميّ والتكفيريّ بكل ألوانه، خاصة الدينيّ والمذهبيّ.  

السابق
المحكمة الدولية: تضارب مصالح القضاة؟ 
التالي
برجوازية الإخوان المسلمين