حالة مَرَضيّة..

لم يبلع الطاغية الدمشقي بعد، أن تنحو مواقع محدّدة في لبنان باتجاه غير مألوف بالنسبة إليه، أي خارج السياق الذي حكم العلاقات السورية اللبنانية على مدى ثلاثة عقود، وأكثر بقليل.

ومكابرته في المجال اللبناني تبدو أكبر من مكابرته ونكرانه في المجال السوري المباشر.. إلى حد انّ أداءه يشي بأنّه غير مهتم بما آلت إليه أحوال سوريا وأحواله فيها، بقدر اهتمامه بما آلت إليه أحوال لبنان وأحواله فيه! مؤكداً بذلك، التوصيف القائل بأنّ الإمساك بلبنان عند الحكم الأسدي بشقّيه السابق والراهن، كان ولا يزال(؟) أكبر من همّ سياسي استراتيجي تعينه الجغرافيا والتجارة. وأبعد مدى من ضرورته كساحة نفوذ وجزء مركزي من زنّار الدفاع عن الحكم في قلب دمشق! بل أكبر حتى من الطموحات التمدّدية المكبوتة والمستورة تحت الشعار القائل بـ"الأمّة الواحدة.. والرسالة الخالدة"… لبنان أكبر وأهم من ذلك كله بالنسبة إليه، والتوصيف المختصر لهذه الحالة يمكن بسهولة أن يُستعار من كتب الطب وعلم النفس أكثر مما يُستعار من كتب الحرب والديبلوماسية والاقتصاد والارتزاق والابتزاز الإرهابي.
لبنان في العقل الأسدي "حالة مَرَضية" علاجها عصيّ حتى على أرفع الحكماء السياسيين مقاماً، وأكثرهم اتزاناً ودراية بعلوم الدول وغرائب حكّامها، بل وأكثرهم تمحيصاً بتجارب التاريخ وما يمكن أن يُؤخذ منها للاتعاظ ومنع التكرار التجريبي والتخريبي.

..يدمّر سوريا من أوّلها إلى آخرها، ويجد وقتاً للاستمرار في استعراض هلوساته وأمراضه في لبنان. ويُخْنَقْ في حصار سياسي وأمني اقتصادي ديبلوماسي لا سابق له، ويجد وقتاً للبحث في تفاصيل القتل والتخريب في لبنان، وفي المواقف التي تصدر عنه، وفي الجهات التي يتوعّد بعقابها لأنّها خرجت عن طاعته أو لأنّها أنكرت فضائله عليها، أو لأنّها لم تبدِ حماسة لتقبل "المهمّات" التي يطلبها منها.. وتتعرّض سلطته لتدمير حتمي وكاسح، وتتعطّل وظائف نظامه على كل المستويات محلياً واقليمياً ودولياً، ويسفك دم السوريين مدراراً ويتسبب بنكبة فظيعة لا قِبَل لسوريا على حملها ومعالجة آثارها ولو بعد خمسة عقود.. ومع ذلك يجد وقتاً لتمرير رسائل إلى اللبنانيين بالجملة والمفرّق، وكأنّ شيئاً لم يحصل! أو كأنّ زلزالاً لم يضرب في عمق وجوده في البلدين اللذين قُدِّر له أن "يرثهما" عن والده، فلم يستطع المحافظة على شيء منهما وفيهما.
يعاني كثيراً الحاكم الدمشقي في صراعه الوجودي داخل سوريا، لكنه يصرّ على إبلاغ القريب والبعيد، انّ معاناته أمرّ وأقسى في لبنان ومع أهله! صانعاً بنفسه ويديه تركيبة هزيمته المزدوجة والصافية. تاركاً في ذلك عزاءً لضحاياه بأنّه من النوع الذي لا يكفيه انكسار واحد أو اثنان (كي لا يُقال شيء آخر!) بل يستحق بالفعل والضمير انكسارات على عدد ضحاياه، وما أكثرهم.
 

السابق
النهار: مصالحة الحريري – جنبلاط أطاحت قانون الانتخاب والراعي يفرمل إقرار سلسلة الرتب والرواتب اليوم
التالي
1701 لضبط حدود لبنان ومداخله