المسلمون والصيغة اللبنانية

لم يكن مصادفة أن يبرز مشروع السيد موسى الصدر مع صعود الشهابية في لبنان، وأن يبرز مشروع كمال جنبلاط ويتوهّج مع تصاعد الكلام الإصلاحي الاجتماعي في تلك المرحلة التي شهدت أيضاً تطورات اصلاحية في الوسط المسيحي إذ إنها تزامنت مع المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965)، ومع لاهوت التحرير المكافح في أميركا اللاتينية…

كما أنها ترافقت مع الإصلاحات البنيوية في النظام اللبناني، من الضمان الاجتماعي إلى الخدمة المدنية والتفتيش المركزي والجامعة اللبنانية والثانويات الرسمية، والتي رافقها نمو الطبقة الوسطى وتطور العلاقات مع العرب وصعود التيار التنموي الاجتماعي داخل الأحزاب الكيانية (موريس الجميل مثالاً)، ونشوء حركات طلابية تحمل هذا الهم (حركة الوعي مثالاً).

ولم يكن العقل الاسلامي التقليدي يحمل يومها فكرة الحزبية الدينية أو المفاهيم الأصولية، كالحاكمية عند السُنة، أو ولاية الفقيه عند الشيعة، ذلك أن الوضع الاجتماعي للمسلمين في ذلك الزمن كان في قمة صعوده وينعم بالبحبوحة ويتوسع في السلطة ويحظى بمكانة اجتماعية تعززها طبقة وسطى صاعدة ومتماسكة. ومن هنا فإن الدعوات الاسلامية حينها كانت لتثبيت المفهوم اللبناني والهوية اللبنانية، وقد تجسد هذا الوضع في ذروته خلال أعمال الندوة اللبنانية في الستينيات…

لكن تحوّلات أصابت مجتمعاتنا في السبعينيات، كان لها انعكاسها على العقل السياسي الإسلامي، والعقل الديني الإسلامي. ونحن نلاحظ حدّة في كتابات تلك الفترة، فقد كان الموضوع الفلسطيني العامل الأساسي والحاسم في التحوّلات في العقل الديني الإسلامي، وعلى عدة مستويات، وليس فقط على مستوى الوعي.

كان تأثير العامل الفلسطيني في لبنان واضحاً عند المسلمين السنّة، حتى إنه قيل عام 1975 إن الفلسطينيين هم جيش السُنة، أي إن الاستقواء بالفلسطيني استخدم في الداخل على أنه قادر على قلب المعادلات الداخلية، بغضّ النظر عن التدخلات الأجنبية التي قد يستدعيها الطرف الآخر لحماية نفسه ومشروعه. وقد ساد هذا التفكير الاستقوائي في وعي اللبنانيين كافة أو لاوعيهم. وكانت الغلبة هي المنطلق، وليس فقط تحسين المواقع في السلطة.

وكان لذلك الوضع حامله الدولي في صراع الجبارين يومذاك، والاقليمي في الانقسام العربي بعد حرب تشرين 1973.
بحلول عام 1975 بدأ صعود الاتجاهات العنفية في الوضع الاسلامي، وقد ولَّد هذا التجذير (Radicalization) داخل الطوائف القوى الجديدة التي بدأت تبحث عن أيديولوجيا. وليس من قبيل الصدفة أن تخرج أيديولوجيا أصولية دينية اسلامية بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.

إضافة الى المسألة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني، برز عامل جديد أساسي وحاسم بالنسبة إلى الشيعة، ألا وهو قيام دولة إسلامية. كما أن نجاح الشيعة في إقامة دولة إسلامية في إيران عام 1979 ولّد تفاعلات عند السُنة. فليس صدفة أن نشأت تنظيمات الجهاد عند السُنة بعد استلام الخميني السلطة.

ولكنّ مرارات الحروب الأهلية جعلت اللبنانيين يكتشفون ذواتهم ووجودهم وقد تعلّموا أنه ليس لهم إلّا لبنان، مهما حاروا وداروا، ومهما وجدوا من صيغ وصداقات وتحالفات، فهي كلها تخيب وتخسر، ولا يبقى لهم إلا لبنان… وهذا اللبنان يخلق دائماً ويومياً بإرادة أبنائه اللبنانيين، فهو ليس وطناً معطى، أو وطناً جاهزاً، إنه وطن يُخلق يومياً.

هذا الوطن لم يعد شعاراً سطحياً تستخدمه لغة سياسيّة نفاقية انتهازية… هذا "الوطن النهائي" تجاوز المساومة السياسية التقليدية التي أرسَت دعائم الميثاق الوطني الأوّل (1943)، والتي وجدت تنظيرها الأهم والأشهر في رسالة السيّدين كاظم الصلح وعادل عسيران: "مشكلة الاتصال والانفصال في لبنان" (1936)، أو في بيان رياض الصلح الوزاري الأول (1943)، أو في ثوابت صائب سلام الشهيرة، أو في برنامج الحركة الوطنية الاصلاحي (1975)، أو في وثيقة المجلس الشيعي (1977)، ثم أخيراً في وثيقة الطائف (1989)…

هذا اللبنان، الوطن النهائي، ليس مكاناً جميلاً فحسب… إنه كرامة وحرّية، بيت ورغيف حلال، مدرسة ومستشفى، قدرة على المشاركة في الرأي والقرار، قدرة على التعبير والنقد… إن لبنان معنى ودوراً، وحوار حياة، أنتج صيغة فريدة للعيش المشترك ونمطاً مميزاً…

ومن هنا، فإنّ قيمة الرجال أمثال: كمال جنبلاط وموسى الصدر وحسن خالد وصائب سلام ورفيق الحريري ومحمد مهدي شمس الدين، تكمُن في أنّهم أعادوا إنتاج الفكرة اللبنانية والصيغة اللبنانية، في سياق إدماج المسلمين عموماً في رؤية وطنيّة جامعة، وفي مشروع وطني مشترك، يقوم على مبدأ: لبنان الوطن النهائي والدولة المدنية… وقد توافق المسلمون مع الطائف على بقاء لبنان خارج أي صيغة من الوحدة السورية أو العربية أو الاسلامية…

لقد أنجزنا في لبنان أفضل صيغة في التاريخ للعيش المشترك، ونحن نعتبر المحافظة عليها وصونها وترسيخها واجباً دينياً، وليس واجباً سياسياً فقط… لكن نجاح تجربة الطائف هو اليوم بيد المسلمين (والشيعة تحديداً) في أسلوب إدارتهم للحكم وتأسيسهم للوطن وللدولة بعد الطائف، وفي الخطاب السياسي وفي الخطاب التعبوي…  

السابق
اللمسات الأخيرة
التالي
Al Hiwar