جسد السلطان

رئيس جمهورية دولة عظمى أجبر على الاستقالة حين ثبتت مسؤوليته عن قيام أنصاره بالتلصص على مكتب الخصوم وسرقة أسرارهم بالتنصت عليها. وزير انتحر حين أطلقت شائعة عن استغلاله منصبه للاقتراض من أجل شراء منزل له، وزير آخر استقال حين تبين انه يعيش على حساب الوزارة في منزل أوسع من المعتاد في مدينة تقل فيها المساحات الواسعة، انها قصص لا نرويها من أجل دروس أخلاقية. العبرة منها هو أن هؤلاء غادروا مناصبهم لأقل شائبة. خرجوا لمجرد انهم اتهموا، لم يتحملوا أحياناً تهمة باطلة. لم يتحملوا لوثة ولو غير صحيحة. فارقوا السلطة لمجرد انهم لم يثبتوا جدارتهم بها. فارقوها أحياناً لمجرد ان العهد طال بهم وهناك غيرهم في الانتظار. كانوا جميعاً في السلطة، عابرين لكن السلطة لم تكن لهم، كانوا في السلطة لكنهم لم يمتلكوها، لم يتماهوا معها. لم تغد جسداً لهم ولباساً وإسماً وشهرة. كانوا عابرين وابتعدوا لأنهم لم يبدوا مستحقين، هربوا أحيانا أمام شائعة. لم يدافعوا عن استحقاقهم. كان يكفي ان يؤخذوا بظنة، ان يرموا بحجر. كان يكفي ان يقذفوا بشائعة حتى يُشك في جدارتهم. لقد تدرجوا في السلطة، أفنوا حياة فيها، وصلوا بالجهد وتقلبوا فيها ولعبوا أدواراً وارتقوا وكافحوا، مع ذلك لم يطيقوا تشكيكاً أو شبهة أو ظناً. انفصلوا لدى أول تهمة، انتزعوا أجسادهم من جسد السلطان، استعادوا أسماءهم منه، استعادوا أدوارهم، خرجوا منه بأسماء وأجساد وهويات. لم تكن السلطة نهايتهم، أوجدوا لأنفسهم نهايات أخرى، لم تكن السلطة ذواتهم، كانت لهم ذواتهم، وحين خرجوا منها وجدوا أسماءهم وأجسادهم في انتظارهم. هذه هي الديموقراطية. السياسة لعبة الجميع لكنها لعبة وليست أكثر، واللاعبون يدخلون ويخرجون واللاعبون عابرون. عابرون فحسب فالسلطة لا تتسمى بهم ولا تطابقهم ولا تتماهى معهم.

السلطة أو الموت، الدكتاتوريات، وأمثالها في بلادنا، تترسم هذا الشعار. السلطة تحتاج إلى قفزة، قفزة إلى السدة أو إلى الإعدام. سلطة كهذه تساوي الحياة، تساوي الشخص وتساوي الوجود، قفزة واحدة وتغدو في اليد. قفزة واحدة وتدخل في ملك أحدهم، وإذا صارت في ملكه تسمت به وتسمى بها وتطابقا وتماهيا وبات لهما ذات الجسد وذات الإسم، بل بات لهما نفس الشهرة واللقب والسلالة والأسرة. من يغدو رب السلطة تغدو هذه عائلته أو يغدو هو وأبناؤه وأحفاده وأهله وقومه عائلتها، إذا قفز أحدهم إلى السلطة صار لها صورته ووجهه واسمه وشهرته فلا ينتزع احدهما من الآخر إلا بالعنف، ولا ينتزع إلا بالقتل فمن تملكه جسد السلطان يخرج منه بلا جسد وبلا اسم.

السلطة أو الموت، ليس بعد السلطة في الديكتاتوريات سوى الموت، موت السلطات وموت المستولي على السلطات. هكذا نفهم كيف ان الرئيس يبقى رغم كل شيء، ترفضه الألوف ومئات الألوف وينزل الشارع بقضه وقضيضه، وتتعالى الشبهات والظنون والتهم ويؤخذ عليه شوائب لا تطاله في شخصه فحسب بل تطاله في بيته وأسرته وجماعته وحزبه فلا يرمش له جفن، ولا يهتز عضو فيه، وإذا اجتمع الناس عليه وعلى السلطات تصدى لهم بجسد السلطان الذي هو من الآن جسده، تصدى لهم بقوة السلطان وعسفه. هكذا يسقط في حمص وحلب ودمشق ودوما وبانياس ودرعا ودمشق. يسقط آلاف وعشرات الآلاف فلا يتغير شيء، بل لا يشعر أحد بأنه أخذ بتهمة او شائبة او حتى شائعة. فالواضح ان الحاكم لا يستطيع ان ينزع جسده من جسد السلطان ولا اسمه منه ولا ذاته ولا شهرته. لن يكون له خارج هذا جسد ولا اسم ولا ذات ولا شهرة، بل هو في مماهاته بجسد السلطان يحارب به او يحارب عنه، لا فرق. فالواضح ان السلطان برمته في المعترك ولا يسأل بالطبع عن أي تفويض ولا يسأل عن أي شرعية ولا يسأل عن أي تمثيل ولا يسأل عن شروط ومعايير، فكل هذه ليست شيئا إذا ائتلف الحاكم والسلطان بل إذا لم يعد للحاكم وجه سوى وجه السلطان فلا عجب إذا كانت الحرب هي حرب الحاكم والسلطان معاً وإذا كانت آلة السلطان برمتها في المعركة، وإذا كان الرئيس هو بالنسبة للعالم كله هو السؤال والمسألة. إذا كانت الحرب حوله ومعه وضده وعليه. إذا كانت عشرات الألوف وربما مئات الألوف من القتلى والسجناء في كفه وهو في الكفة الموازية. إذا كان ثمن بقائه أعلى من ثمن المجتمع كله. إذا كان رحيله أغلى ثمنا من مدن كاملة وجماعات كاملة.

في بلدان أخرى يخرج الرئيس لكي لا يدمغ الرئاسة بشيء، لأن الرئاسة ليست الرئيس ولأن الرئيس وحده يدفع الثمن. في بلدان أخرى لا يحتمل الرئيس وزر سقوط إنسان، بل يكفي ان ينشأ خلاف مسلح وبأي قدر وفي أي حدود حوله ليفقد شرعيته. عندما ينشب صراع مسلح حول شخص، أيا كان هذا الشخص فإن عليه ان يبتعد. ليست هذه هي المرة الأولى التي يدعم فيها حكم منتخب ديكتاتورية ما صوناً لمصالحه. نشب في روسيا سجال حول شرعية انتخاب بوتين لكن مدير الكاجي بي السابق لا يحكّم الديموقراطية بالطبع في علاقاته الدولية، أما الصين فإنها تحفظ من الشيوعية إلى الآن ديكتاتورية الحزب. بلدان كهذه لن تهتم إذا سقط عشرات الآلاف قرباناً عن جسد السلطان وثمنا رخيصاً لبقاء حكم. بلدان كهذه لا تملك تراثا يميز بين الحاكم والدولة، بين جسد السلطان وجسد الرئيس، لا نعرف كم هو الثمن الذي ما يزال على الشعب السوري ان يدفعه، لكن التضحية بمجتمع كامل في سبيل شخص هو ما لا نستطيع ان نغفره، التضحية بمستقبل كامل في سبيل مصلحة محدودة مقامرة هائلة. ان الشعب بكامله سيدفع الآن وفي المستقبل أثمان هذا اللعب المشبوه بغده ومصيره. لا ننسى أن كل هذا الدم أهرق ويهرق في سبيل شخص واحد.
 

السابق
الأكراد يثيرون الغليان الإقليمي
التالي
الأنوار: حرائق بيروت تودع اضراب المياومين