عزلة الحريريّة تحبط الجمهور

يعزل تيار المستقبل نفسه عن محيطه الشعبي. ثمّة خللٌ ما في منظومته. في الوقت الذي تأسر فيه الأوضاع الأمنية والمادية زعيمه خارج البلاد، تتخبّط قاعدته وحيدة في بحر من الهواجس والخيبة

لا يكفي جمهور «المستقبل» أن يخرج إليه فؤاد السنيورة نائباً مشاكساً، وسياسياً محنكاً. لا تُجدي مؤتمراته نفعاً في شدّ العصب السنّي. تغرق بهية الحريري في بحر صيدا، فيما يصارع «المستقبليون» الأمواج السياسية منذ عام 2005. أن تكون اليوم «أزرق» يعني أن تتمزّق روحك بين صورة معتدلة ونفس متطرّفة. طبعاً، لم يعُد بالإمكان الوقوف موقف المتفرّج على «الشيخ» الذي سيصوم شهر رمضان على متن يخته بين موناكو وسردينيا، بعدما صار مقرّبون منه يجزمون بأنه لن يعود إلى لبنان في بداية شهر الصوم، فيما ستفطر الطائفة السنّية على موائد السياسة المتطرفة من الشمال إلى الجنوب.
في أروقة التيار «الكثير من النقاش الحامي». اكتشف المنتسبون إليه خللاً واضحاً في كيفية التعامل مع القاعدة. هذه الأخيرة التي ما عادت تكتفي بالخطب، ولا التغريد، ولا التبريرات الأمنية التي تعزلها عن قائدها، وهي «في أمسّ الحاجة إليه». يقول هؤلاء إن «التواصل شبه مقطوع مع القيادات السياسية المتخبّطة». تمارس هذه القيادات مهماتها الرسمية. نواب ووزراء ببدلات وربطات عنق لا تنفع لكبح جماح هذه القاعدة المحتقنة منذ عام 2005، وفتحت شهيتها على السلاح والمعارك والتغيير، بعدما «خرج المارد السنّي من قمقعه، فيما نؤسر نحن داخل تيارنا».
تقف ذاكرة هؤلاء عند 14 شباط 2005. لا تعود إلى الوراء، بل تتقدّم باتجاه الأحداث الأمنية والسياسية التي تلَت «الاغتيالات المتتالية لشخصيات من 14 شباط، احتلال وسط بيروت، 7 أيار واتفاق الدوحة، حكومة الوحدة الوطنية ومن بعدها تطيير سعد الحريري وصولاً إلى اليوم». شريط من الصور لا ينفك هؤلاء عن إعادته في حديثهم عن وضع الطائفة السنيّة. في المقابل «نُزجّ نحن في معارك دونكيشوتية، ومرحلة من خداع الذات والتخبّط الفكري».
الأمان فكرة خرافية، لا يُمكن أن توفّرها السيارات المدرعة ولا القصور الأوروبية والعربية. باتت القاعدة شبه مقتنعة بالخسارة السياسية التي يُمنى بها التيار، في الوقت الذي «يأتي من يقطف ثمرة جهوده». أول تجليات هذه الخسارة هو «ظهور الشيخ أحمد الأسير في قلب صيدا». يعتقد العديد ممن في التيار بأن «محاصرة الرجل سياسياً وصيداوياً لن تقضي على ظاهرته». هو اليوم «لا يخسر، بل يؤسّس حالته في عقر دار الحريري والسنيورة معاً، ولن يقوى أحد على ردّه، والدليل أن حجم الدائرة الملتفة حوله تتسع يومياً، فتشفط من جمهورنا من يرى فيه رجلاً يمثّل طروحاته».
وكالأسير هناك العديد من الترجمات التي تعيشها القاعدة نتيجة «العزلة الحريرية». تدور حول نفسها في حلقة مفرغة، مراقبة كل ما يحصل، ومتروكة «للقضاء والقدر»، فيما «تعمل كل الأطراف على شدّ أحزمتها تحسباً لأي تطوّر على الساحتين الداخلية والإقليمية». يدّعي بعض الكوادر في التيار معرفتهم بما يقوم به حزب الله «الذي طلب من مسؤوليه أن يعدّوا العدّة لمواجهات باتت قريبة». يرفض الكوادر الزرق الدخول في مواجهات مسلّحة، «لكننا لن نقف متفرجيّن إزاء أي اعتداء نتعرّض له». لا يخفون «النشوة التي يشعرون بها عند كل تحرّك شمالي يفرض مقولة السلاح بالسلاح». ضاقوا ذرعاً بـ«الطبقة البرجوازية التي اختارت العزف على أوتار الطائفية والمذهبية والتطرف، وسحبت نفسها بعدما حشرتنا في الزاوية».
رغم الكلام الكثير «تنأى طبقتنا السياسية بنفسها عنّا منتظرة سقوط بشار الأسد»، يقول هؤلاء، فيما «تنتظر طائفة بكاملها الموت في السوق أو المقهى أو المسجد». لم يعودوا مقتنعين بأن «انهيار النظام في سوريا سينعكس إيجاباً على الوضع الداخلي».
إذاً تنسلخ القاعدة يومياً عن ممثليها في ما «يعدّ الرئيس السنيورة العدّة لعودته إلى السلطة هو وفريقه، وكأن خصومنا سيصمتون عن هزيمتهم».
في الواقع، باتت القاعدة الشعبية تطلق العنان للاحتقان المكبوت في داخلها. تخرج من صفة الاعتدال بطريقة غير إرادية. تنظر بإعجاب كبير، ولو سرّاً، إلى «خالد ضاهر المدعوم مادياً وسياسياً من قطر» أكثر من إعجابها «بطلّة الشيخ البهية، أو السنيورة ــــ البديل الذي يعكس شخصية رجل الدولة».
الانفصال عن هذه الطبقة بات واقعاً. يبدو ذلك من «أول تداعيات الأزمة السياسية السورية التي ندفع بسببها اليوم ثمناً باهظاً»، خصوصاً أننا «تعلمنا من الانتفاضات العربية أن من الصعب التنبّؤ بمساراتها، فيما لم يتعلّم زعيمنا أن المواجهة لا تُدار من الخارج».  

السابق
مقبرة جماعية
التالي
بالصور: المناورات الجوية السورية