إفقار التاريخ

كان يمكن بعض المتعصّبين أن يدافعوا عمّا فعلته «طالبان» في 2001، حين دمّرت أكبر تمثال بوذيّ في مدينة باميان، وسط أفغانستان. لكنْ ماذا يقول المتعصّبون هؤلاء عن تدمير «حركة أنصار الدين»، حليفة «القاعدة» و «طالبان»، ثلاثة أضرحة مصنّفة على لائحة التراث العالميّ لمدينة تمبكتو شمال مالي، تعود إلى أولياء مسلمين؟

واقع الحال أنّ هذا الذي نراه على أيدي تنظيمات كـ «طالبان» و «القاعدة» و «أنصار الدين»، وما ماثلها ويماثلها، ناجم عن «ثقافة» أصبحت شائعة وسائدة في العالم الإسلاميّ منذ عقود.
والضحيّة الأولى لهذه «الثقافة» هي الحضارة الإسلاميّة نفسها. ذاك أنّ صورة الإسلام كما اعتمدتْها الحركات السياسيّة الجماهيريّة والمؤثّرة توقّفت دائماً عند الإسلام الأوّل. فالسيرة النبويّة وعهد الخلفاء الراشدين يحتلاّن في رسم تلك الصورة، عند الإسلاميّين، وقبلهم عند القوميّين، أضعاف أضعاف ما يحتلّه العصر العباسيّ بما شهده من ثراء ماديّ وثقافيّ، ومن ترجمات وتثاقُف جمع بين المسلمين وسواهم من الثقافات والحضارات. وباستثناء إشارات سريعة إلى بغداد العباسيّة، ودمشق الأمويّة، معظمُها خطابيّ وينطوي على تشاوُف قوميّ وشوفينيّ، صدر الاهتمام الفعليّ بالتاريخ الاسلاميّ وبدراسته عن بيئات أخرى، استشراقيّة أو أكاديميّة أو هامشيّة الحضور والتأثير إسلاميّاً. والأمر نفسه يصحّ في تهميش الطاقة التجاريّة في حضارة الإسلام وإمكانات تعايشها مع الرأسماليّة، وفق مجادلة شهيرة للمستشرق مكسيم رودنسون. إذ غلب دائماً تقديم إسلام قَبَليّ وكثير الضجيج وغير مدينيّ. فكأن ثمّة ميلاً راسخاً وسائداً إلى فصل الدين العربيّ، كحدث تأسيسيّ، عن سائر التجارب والمعاني التي اكتسبها في مساره الطويل، ومن ثمّ إلى تجميده في التاريخ عند محطّة أولى بسيطة. وربّما ساعد في فهم هذا المنحى كون الإسلام «دين انتصار»، ولأنّ الانتصارات التي حقّقها وأوصلته إلى أبعد بقاع الأرض هي ممّا لم تعرفه اليهوديّة والمسيحيّة، بقي ذلك موضعاً لافتخار راسخ استخدمته التيّارات النضاليّة اللاحقة كمادّة يُبنى ويؤسّس عليها في الصراع مع الغرب.

والنظرة هذه همّشت إلى أبعد الحدود إسهامات الحضارة الإسلاميّة في الفكر والفلسفة والعلوم، لتؤكّد أحاديّة اهتمامها بالفقه والتفاسير، لا سيّما أنّ «الجهاد» احتلّ موقعاً في صورة الإسلام سهّل طرد أوجهه ومشتقّاته الأخرى، كصوفيّته أو فلسفته أو احتماله الرأسماليّ والعقلانيّة التي سبق أن ترتّبت عليه. والنظرة إيّاها ساعدت في هندسة رؤية لـ «الآخر» بوصفه انعكاساً لـ «الذات»، أي بوصفه هو أيضاً لا يتزحزح عن هوّيته الدينيّة الثابتة والفقيرة.

وهذا التأويل الأحاديّ، والإفقاريّ، إنّما قوي كثيراً في العقود الأخيرة مع اشتداد ساعد الحركات الأصوليّة. وقد زاد فيه أنّ الحركات النضاليّة عموماً حملت إنكاراً للتاريخ السابق على قدوم العرب من شبه الجزيرة أو خفضاً لقيمة ذاك التاريخ ومكانته. وهي وجهة تعاظمت مع تضخّم محطّات «الهويّة» والنضال لأجلها: في الخمسينات مع وصول العسكريّين القوميّين الى السلطة، وبخاصّة في الثمانينات وما تلاها بسبب صعود تلك الحركات الأصوليّة. هكذا غدت الفينيقيّة والبابليّة والآراميّة والفرعونيّة موضوعاً للنبذ والمحاربة. وهذا علماً بأنّ التصالح مع الثقافات السابقة على الاسلام، مثلما تصالحت أوروبا مع الآداب اليونانيّة والرومانيّة القديمة، شرط شارط لدخول المعاصرة التي لا يريد «أنصار الدين» إلاّ دفعها بعيداً.  

السابق
تركيا والنظام السوري والحسابات القديمة
التالي
هذا الذي في لبنان