في عكار الدم للجيش..وللطائفة

من حادثة عيات التي أودت بحياة عضو المجلس الإسلامي العلوي بسام القاضي، إلى تداعيات مقتل الطفل ماهر حمد في العريضة، فحادثة الكويخات التي أقصت الجيش عن ممارسة دوره في عكار، وصولاً إلى العبودية التي جعلت من خطف اثنين من أبنائها حدثاً إقليمياً، فضلاً عن الجرح النازف على معابر وادي خالد الشرعية وغير الشرعية.. تقع الحادثة الأمنية. تختلف التأويلات. يبدأ التحقيق، ولا يصل إلى نتيجة. ترتفع وتيرة الخطاب السياسي والمذهبي.

ينخفض منسوب الثقة بأجهزة الدولة ومؤسساتها. ترتسم معالم مناطق النفوذ المذهبي، ثم تزداد وضوحاً: عكار مقابل الضاحية، مشروع سياسي سنّي مؤيد للمعارضة السورية في مقابل مشروع شيعي مؤيد للنظام السوري. علامتا الوضوح لافتة ترفع وكلام يُعلن.
تحتوي عبارة «عكار خزان الجيش اللبناني» قدراً كبيراً من التعميم، إذ ثمة مناطق مثل سهل عكار ووادي خالد لم تعرف التطوع في صفوف الجيش إلا مؤخراً، وثمة مناطق أخرى مثل منيارة ورحبة وبينو لم تشهد تطوعاً كثيفاً لأسباب سياسية واقتصادية، فيما عرفت معظم المناطق العكارية أنشطة مختلفة جعلت التطوع في الجيش والمؤسسات الأمنية أحد الخيارات، إلا في بلدات جبل أكروم التي لها مع الجيش حكاية خاصة.

ملخص الحكاية أن الجيش نقل قرى جبل أكروم من الفقر المدقع إلى مصاف أكثر البلدات نهوضا عمرانيا وتربويا وفي سائر مجالات التجارة. يقول الجندي المتقاعد حسن هدى تعبيراً عن ارتياحه لقيمة معاشه التقاعدي «المليون ليرة إذا أكلتها لا تنفد خلال شهر» علماً بأنه يعيل أسرة مكونة من ثلاثة عشر فرداً. وتشرح أم أحمد اسماعيل كيف ساهمت في تمكين ابنيها العسكريين من تشييد بناء من أربعة طوابق بتنظيم مصروف الأسرتين بمئتي ألف ليرة شهرياً.
مضى ذلك الزمان منذ أكثر من عشر سنوات، لكن آثاره لم تمحَ، وخصوصاً لناحية التعلق بمؤسسات الدولة الأمنية. كذلك ظلت انعكاساته السياسية راسخة. وكانت تتبلور في أعلى مستويات الامتثال في الانتخابات، حيث مثلت منطقة أكروم احتياطاً استراتيجياً، استخدمته الإدارة السياسية لضبط التوازنات الانتخابية، بدءاً بالمرحلة الشهابية، مروراً بمرحلة الوجود السوري، وانتهاء بهيمنة تيار المستقبل على الساحة السنّية.

شهد جبل أكروم في السنوات العشر الأخيرة تطوراً مذهلاً في الإعمار، رافقه نمو سريع في المهن المرتبطة بقطاع البناء، واتسعت الدائرة لتشمل قطاعات إنتاجية متعددة. وفي السنوات العشر الأخيرة ولد جيل كامل من الجامعيين. وواكبت النهضة العلمية والمالية استفاقة الحركات الدينية السنّية، خصوصاً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبشكل أخص مع اندلاع الأحداث السورية.

ابن أكروم الذي عاش دهراً على توسل أي كان من الطائفة المارونية لـ«يلبِّس ابنه في الجيش»، ثم عاش مدة أخرى ينتظر إشارة الضابط السوري ليحدد موقفه في أدنى الشؤون والتفاصيل السياسية والانتخابية، وجد نفسه ــ وهو المقيم على بقعة جغرافية تتيح له رؤية بحيرة حمص وما دونها ــ في بيئة إعلامية وسياسية، تؤكد له أن أيام النظام السوري باتت معدودة، وأن الاستخبارات السورية التي اختبر الأكرومي معنى الانصياع لها باتت عاجزة عن الإمساك بزمام المبادرة.
ابن أكروم الذي كان يتلقى بخوف ممزوج بتهكم ضمني «أمر اليوم» في مختلف القطع العسكرية، بلغ مرحلة بات يجاهر فيها بأن «أمر اليوم» لم يكن سوى أمر النظام السوري. وأمر النظام السوري في الوعي الأكرومي يتقاطع مع أمر «المقاومة الإسلامية» سابقاً والطائفة الشيعية حالياً.

لذلك جاء مقتل الشيخ أحمد عبد الواحد على حاجز للجيش ليحدث توتراً في الوجدان الأكرومي لم يسبق له مثيل. لم ينزل الأكرومي إلى الشارع، لم يحرق الإطارات، لكن للمرة الأولى تقول زوجة موظف في إحدى المؤسسات الأمنية «صرت أكره الجيش»، في حين أن معيار زواج الفتاة الأكرومية يكاد ينحصر في كون العريس جندياً. زوجة يوسف الخطيب وهي ابنة المختار السابق لجبل أكروم قبل أن يقسم الجبل إدارياً إلى قرى ومن ثم إلى بلدات، لم تستوعب كيف يقتل شيخ مسلم في عكار على حاجز للجيش.
إنه تناقض صارخ يبدأ من البيرة التي رفعت فيها بعيد مقتل الشيخ أحمد عبد الواحد لافتة باسم أهالي البلدة تتضمن عبارات قاسية ضد الجيش على بعد أمتار من منزل رئيس المجلس الأعلى للدفاع اللواء عدنان مرعب، ليصل إلى طرح السؤال حول المفاضلة بين الدين والجيش ولقمة العيش، في نظام طائفي ظل قادته يظنون أنهم يتقنون فن استنفار العصبيات والرقص على حافة الهاوية.

«الدم الذي يسري في عروق ابن أكروم ملك للجيش اللبناني»، كما قال الجندي المتقاعد يوسف الخطيب. هذا الدم نفسه يفور غضباً طائفياً ومذهبياً، مثلماً عبّر ابن الجندي المتقاعد نفسه، بتهذيب ورصانة أبناء العساكر، ولكن بخلفية الانتماء الديني الذي تبلور أكثر فأكثر بفعل متابعة دورات التثقيف الديني في معهد الإمام البخاري في طرابلس. ابن الجندي المتقاعد والمجاز في إدارة الأعمال أحمد يوسف الخطيب يقول مبرراً «المطالبة بسحب الفوج المجوقل من عكار لامتصاص النقمة وتجنب الأعظم».
يشير توصيف الوقائع والهواجس التي يلهج بها العكاريون إلى أن الأحداث تسير على غير هدى، وإلى أن تأخر المعالجات السياسية الهادئة كما يقول مسؤول الجماعة الإسلامية في عكار محمد هوشر «يقوي صوت الفاجرين ويخفض صوت العاقلين».
وإذا كانت القوى الأمنية والعسكرية قد تمركزت في مناطق مختلفة من طرابلس قبل أن تصل بدقائق للفصل بين باب التبانة وجبل محسن، وإذا كانت عكار تختزن كل مقومات التفجير الحاصل في طرابلس، يضاف إليها وقوعها على الحدود السورية مباشرة، فهل من يتخيل أين ستتمركز القوى الأمنية، وكم من الوقت ستحتاج لتنتشر في فنيدق وأكروم وسهل عكار والبيرة والقبيات؟  

السابق
الاخبار: الأكثرية تمدّد عمر الحكومة: اتفاق على الإنفاق والتعيينات
التالي
اللبنانيون في الخليج ؟!!