في الحوار وأحكامه

صحيح في المبدأ ان الحوار أفضل من النقار. وان تلاقي الناس أفضل من تجافيهم وانقطاعهم. وان مليون ساعة حكي مباشر بين المتخاصمين أفضل من لحظة شارعية واحدة، يلعلع فيها أدب الخطاب الناري اللغوي والمسلح.. وان لبنان في بدايته وديمومته وأصل حكايته، هو كيان حواري على مدار الساعة، ونتاج تسوية مستدامة، كلما أصابها ضيم دفع أهله أثماناً باهظات وكبيرات.
وواقع الحال هو ان الحوار اللبناني بديل استثنائي من حروب مؤجلة (؟) وظيفته في لحظة الذروة الانقسامية، تنفيس تلك الذروة وإعادتها الى سياق معقول ومألوف في الدول والمجتمعات المنكوبة (أو المحظوظة) بتنوعها وتعدّدها، والتي أمكن لنظمها الديموقراطية إحالة التنوع والتعدد فيها على المؤسسات العامة، وضبط المشاع السياسي والوظيفي في إطار يرضي معظم الناس ويدفع بتمايزاتها وخلافاتها الى مرتبة خلفية.

لكن استثنائية الاجتماع الأهلي والسياسي اللبناني تكمن في توتره الدائم الذي لم يستطع دستور الجمهورية طمس مسبّباته السياسية وإن تمكن من طمس مسبباته الطائفية والمذهبية، لكن التوتر في شكله ومضمونه الراهن لا يتعلق لا بالدستور ولا بشكل النظام ولا بوظائفه، وإنما يتعلق بالضدّ تماماً: بخرق الدستور وتخريب النظام، وإلغاء وظائفه الأساسية المتصلة بإبقاء الحروب الأهلية الباردة.. باردة وفي الثلاجة!

المشكلة من أولها هي في الانطباع المتين الطاغي على تفكير ورؤى معظم الناس، والقائل ان الحوار عند قوى 8 آذار حاجة سياسية طارئة أكثر من كونه نهجاً لا بد منه لدرء الأخطار وإبقاء جمرها مطموراً تحت التراب. وهي حاجة مطّاطة تبعاً للحظة السياسية القائمة: إذا شعر الاخوان انهم أقوياء (أو أكثر قوة) انسحبوا من الحوار. وإذا شعروا انهم محرجون طلبوا العودة إليه. وفي الحالتين يكون الانطلاق من محطة ذاتية محضة، لا تلحظ ولا ترى الآخرين إلاّ في ذلك السياق.
والمشكلة بعد ذلك، هي في الانطباع الموازي القائل ان مشروع 8 آذار في بداهته وبدايته مضاد لـ"الحوار اللبناني". إلغائي وإقصائي. وان ترجمات ذلك لمسها أهل 14 آذار ميدانياً ودموياً وانقلابياً وسياسياً، أكثر من مرة وآخر فصولها لا يزال مستمراً من خلال الحكومة الحالية.

لا يُجادل أحد في مكرمة العودة الى طاولة الحوار ولا في التوجه النبيل لصاحب الدعوة ولا في نواياه وأهدافه، لكن المجادلة قائمة وستظل، حول معنى حوار لا ينتج إلاّ المزيد من "التوتر"، والمزيد من انعدام الثقة، والمزيد من القراءات التي تفيد بأن عجز الحكومة عن تقديم تغطية "شاملة" لمشاريع بشّار الأسد يجب ألا يُعوّض بغطاء لبناني عام لكن هذه المرّة تحت عنوان "الحوار الوطني"!
نقطة البداية لتفخيت تلك القراءة وتبخيسها تكون بخطوة صغيرة تنتج ثقة كبيرة: إسقاط الحكومة وإنهاء مفاعيل الانقلاب، والإتيان بحكومة حيادية، لا تُتّهم في كلها أو في نصفها أو في ثلثها، بالعمل لخدمة سلطة المجازر في دمشق ومشاريعها الدموية في لبنان.
  

السابق
إجماع ناقص على حوار 11 حزيران.. بانتظار موقف المستقبل
التالي
الرسالة السعودية للحوار