جنبلاط يصر على توجيه رسائل يومية

لا تنكر اوساط في "حزب الله" انها تفاجأ احيانا كثيرة بهذا "الافراط" الذي يمارسه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط في معرض تأكيد التزامه التفاهم الضمني المعقود منذ زمن بينه وبين الحزب وقوامه بقاؤه متمسكاً بالخيارات الداخلية التي اعلن التزامه إياها مذ قرر الدخول في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وصيرورته شريكاً في الاكثرية الحالية، على ان "يقبل" الحزب بموقف جنبلاط من الحدث السوري.

فلم يحدث يوما ان طلب الحزب من شريكه في الحكومة (اي جنبلاط) ان يقدم بشكل شبه يومي "فروض" التزام معادلة الاستمرار في الشراكة الحكومية، ولم يحدث يوما ان "فاتحه" بموضوع اعتناقه رؤى معارضي النظام في سوريا باستثناء مرة واحدة ابدى فيها رأس الحزب اعتراضاً غير مباشر على "تجريح" شخصي طاول الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد.

وعليه فان بعض الدوائر في الحزب وامام هذا السلوك الجنبلاطي تراودها تساؤلات حول الابعاد والطوايا، ولا تلبث هذه التساؤلات ان تتبدد اذا ما تيقنت ان جنبلاط يريد بهذا الكلام ارسال رسالة ذات اتجاهات متعددة بعضها الى جمهوره الذي صارت بحاجة الى تفسيرات مستمرة حيال "تقلبات" الزعامة الجنبلاطية.

وفي العموم يبدو ان السواد الاعظم من الاطراف الداخليين قد تماهوا مع مرحلة الانتظار التي فرضت عليهم بعد اندلاع الاحداث السورية، وبالتالي لم يعد مطلوباً منهم سوى حد ادنى من الحراك وتأكيد الرهانات والمحافظة على واقع الحال القائم في انتظار انجلاء غبار الحدث السوري الذي تخطى حدود كونه حدثاً محلياً وفرض نوعا جديداً من المعادلات الاقليمية والدولية تذكّر الى حد بعيد بسني الحرب الباردة. ويبدو ان جنبلاط، وفق اكثر من رأي في داخل الاكثرية، استثنى نفسه من حالة الانتظار الايجابي او السلبي ليضع نفسه في موضع المطلوب منه حراكاً اكبر واحيانا حراك استثنائياً، إما لكي يحجز لنفسه مكانا في معادلة يرى ان ساعتها آتية ولا ريب، واما لكي يبعد عن نفسه كأساً يمكن ان تضعها معادلة جديدة امام ضرورة تجرعها ولو قسراً وكرهاً.
وبالتالي، فسواء كان الامر كله خيارا واعيا، او انها ضرورات الحال ومعرفة الحجم، فان جنبلاط اختار ان يعيش حالة القلق واللااطمئنان، وهي اضافة الى كونها سمة من سمات الزعامة الجنبلاطية، فانها صارت حاجة في الآونة الاخيرة لا سيما مع ارتفاع وتيرة الحدث السوري وما تداعى منه من حسابات ورهانات.
وعليه فان اوساط الاكثرية ومن بينها اوساط "حزب الله" لم تستغرب ان يكون جنبلاط وحده من بين كل الزعماء والقيادات اللبنانية التي جالت في اقل من ثلاثة اشهر على باريس والدوحة وانقرة وموسكو، واحداها ثلاث مرات وهي العاصمة التركية، لكي يستشف بالضبط الخط البياني لمسار الاحداث في سوريا ولتوقعات هذه العواصم التي هي على تماس يومي مع الحدث السوري ورؤيتها. ومع كل هذا الجهد المكثف فانه لم يعد بحصيلة وزوادة تجعلانه يقرر نهائيا خياراته وتبدّدان من وجدانه حالة اللايقين.

لذا فهو وبعد كل جولة من هذه الجولات يعود ليبعث الى من يعنيهم الامر وخصوصا في الداخل برسالة فحواها انه ما زال ملتزماً ما سبق له أن تعهده.
وبناء على ذلك يدرك الحزب تماماً ان جنبلاط لم تتكون لديه معطيات جديدة تسمح له بالتحرر من الالتزامات السابقة فيعود الى "قواعده" سالماً، وهو امر لا يشكل بالنسبة اليه اية خسارة، بل بالعكس هو "الربح" بعينه وذلك انطلاقاً من اعتبارات متعددة ابرزها:
– ان لا معطيات ووقائع جديدة تسمح لزعيم المختارة بالبناء عليها ليمضي قدما في خيارات وحسابات جديدة.

– ان بقاءه على سبيل المثال في الاكثرية الحكومية حالياً امر "حافل" بالارباح.
– ان ثمة رسائل أتته من جهة السعودية فحواها انها لا تريد من الواقع اللبناني في هذه المرحلة بالذات إلا أموراً محددة هي:
– ان لا تستفز قوى14 آذار خصومها على نحو يفضي الى نشوء اوضاع جديدة تحمل متغيرات على الارض وتطورات دراماتيكية يصعب بعدها اعادة الامور لمصلحة هذا الفريق كما حصل بعد احداث ايار عام 2008.
– ان السعودية لا تريد الآن اكثريات جديدة.

– لقد صار معلوماً ان بقاء الحكومة الحالية لم يعد رهنا بحسابات محلية بل صار حاجة كبرى اقليمية ودولية، وهو امر من شأنه أن يقلل اهمية وفاعلية أي تلويح بسيف الخروج من الحكومة ودفعها نحو الاستقالة.
وبالطبع لدى راصدي الحركة الجنبلاطية دواعٍ ومبررات أخرى تفرض على الزعامة الجنبلاطية أن تكون في حالة حيوية زائدة عن اللزوم في وقت مطلوب من نظرائه القادة اللبنانيين التعايش مع حالة الانتظار، ومنها الرغبة الدائمة الاشتعال لدى الزعامة الجنبلاطية في ألا تكون وسط الاحداث الجسام في المنطقة، في حالة استرخاء أو انتظار على نحو يجعلها أسيرة واقع مستجد قد لا يكون في الحسبان، أو أن تكون أسيرة ردة فعل لفعل مفاجئ. لذا لم يكن غريباً على جنبلاط أن يبذل خلال الاسابيع القليلة الماضية جهوداً استثنائية لكي يؤكد أن ظلال زعامته الدرزية وارف الى درجة بلوغها دروز سوريا، فأكثر من نداءاته الى هؤلاء ليفكوا عرى حلفهم الوثيق مع النظام في سوريا منطلقاً من سلسلة أحداث هناك.
وإذا كانت تلك النداءات لم تؤتِ أكلها، فلا ريب ان رسالة جنبلاط المضمرة وصلت الى من يعنيهم الامر وفحواها ان حدود الشوف ليست فقط حدود التأثير والفعل الجنبلاطي.

ولا ريب أن ثمة من يجد خيوط اتصال وربط بين هذه الديناميكية للزعامة الجنبلاطية التي تظهر انها تأبى الركون حتى للمعادلات الكبرى، وبين المؤتمر العام المقبل للحزب التقدمي الاشتراكي. وعليه فإن في أوساط الأكثرية الراصدة للحركة الجنبلاطية من يقول إن اعلان جنبلاط رفضه مسألة توريث الزعامة، سواء الشعبية أو الحزبية، ليس مرده فقط تماهي جنبلاط مع "الربيع العربي" الذي يجاهر بحماسته له، والقائم على ديناميات وآليات حكم جديدة ترفض التوريث بكل صنوفه والوانه، بل ان ثمة مشكلة في البيت الجنبلاطي نفسه نجمت عن حوار بين جنبلاط الأب والابن اتسم بالحدة وأبى فيه الاخير ان يتسلم دفة زعامة لم تبقِ "خيط عمار" واحد مع كل الاطراف المحليين.
وسواء صحت هذه الرواية أم داخلها تضخيم ومبالغة، فإن جنبلاط يحسد ضمناً نظراءه قادة القوى في لبنان لأن بإمكانهم أن يعيشوا بهدوء مرحلة الانتظار، أما هو فمضطر دوماً الى الحراك.

السابق
9% من المزارعين في حاصبيا يتجاوبون مع استيعاب الزيت
التالي
توازن إقليمي يحمي نظام الأسد ويمدد له قرار وقف العنف الى الغد !