الصين والربيع العربي: الحصار والحوار

أي علاقة بين الاقتصادي والسياسي في الصين التي اصبحت المصدّرة التجارية الاولى الى الشرق الوسط والمستوردة الاولى للنفط السعودي والمستثمرة الاولى في ايران والتي يتحدث المنشقّون على نظامها عن "الربيع العربي"؟

في السابع عشر من تشرين الثاني 2009 وخلال مؤتمر صحافي كان يعقده مع فريق اميركي في العاصمة الصينية بيجينغ خلال الزيارة التي كان يقوم بها الرئيسُ باراك اوباما للصين، وبهدف اعطاء الصحافيين الاميركيين المرافقين معلومات عن مجرى المحادثات، بدأ السفير الاميركي لدى الصين جون هانتسمان كلامه بالقول حرفيا:
" لقد وصلت الى اقتناع ان تعبير "خبير في الشؤون الصينية" هو تعبير لا معنى له (oxymoron) وهؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم خبراء في الشؤون الصينية هم نوع من البلهاء (morons)".
كانت تلك على ما يبدو لحظة عبّر فيها سفير اميركي متابع للعلاقات الاميركية الصينية منذ ثلاثين عاما من مواقع مختلفة عن تحفظه على امكان فهم مأمون للمواقف الصينية. في عقر العاصمة الصينية تابع: " لذلك تأخذ(من الصين) ما تستطيع ان تأخذه، تتعلم ما تستطيع ان تتعلمه، وتبدأ بوضع كل قطعة من القطع مع بعضها البعض، ومع ذلك سيبقى مناخ مشوَّش".

لعل كلمات السفير هانتسمان، الذي استقال اوائل العام 2011، تجددت صلاحيتها اكثر ما تجددت بعد تصويت الصين الثاني في مجلس الامن حول الموضوع السوري في ما سُمي "الفيتو المزدوج". وعبره منعت روسيا والصين اي احتمال لتدخل عسكري غربي في سوريا تتحمس له كثيرا المملكة العربية السعودية كوسيلة وحيدة متبقية لاسقاط النظام القائم بعدما تعثر خيار عسكرة المعارضة.

لم يُقل الكثير عن أحد أكبر "ألغاز" هذا التصويت في حال نُظر الى العلاقات الصينية السعودية. فلقد بلغت هذه العلاقات في الاعوام المنصرمة الى اليوم حجما ضخما في التبادل التجاري. وخلافا للاعتقاد السائد كان استيراد الصين للنفط من ايران عام 2009 يأتي في المرتبة الثالثة بعد الاستيراد الصيني للنفط من السعودية وانغولا حسب دراسة لآرون موريس الخبير من مدرسة فليتشر في جامعة تافت. هذه العلاقة الاقتصادية الوثيقة مع السعودية منذ انطلقت في اواخر الثمانينات جعلت بعض المراقبين يصفونها في فترة ما قبل احتدام الصراع الدولي الاقليمي على سوريا بـ"العلاقة الناضجة" وهي تبلغ بلايين الدولارات سنويا. لهذا كان المسؤولون السعوديون مصدومين بشكل جدي من التصويت الصيني بعد الفيتو الثاني وكانوا على الارجح يعتقدون ان بامكانهم التأثير بشكل أقوى على القرار الصيني بسبب الحرص الصيني الاستراتيجي على تنويع مصادر المواد الاولية التي تحتاجها الآلة الصناعية الصينية الضخمة، ناهيك عن أن الصين اصبحت مؤخرا مع رقم صادرات بلغ 60 مليار دولار من البضائع الى الشرق الاوسط تحتل لأول مرة المرتبة الاولى في التصدير لهذه المنطقة بدل الولايات المتحدة الاميركية التي تراجعت الى المرتبة الثانية.

من المعروف ان الصين مارست حق الفيتو في مجلس الامن الدولي للمرة الاولى (بعد دخولها المجلس عام 1971 خلال التحول التاريخي في علاقاتها مع الولايات المتحدة الاميركية)… مارسته عام 1972 ضد الاعتراف بدولة بنغلادش ارضاءً لحليفتها باكستان في مواجهة خصمها الهند. لكنها بعد عامين اقترعت لصالح عضوية بنغلادش الكاملة في الامم المتحدة. الفيتو الصيني الثاني كان متصلا بالصراع العربي الاسرائيلي ولصالح الموقف العربي اما الفيتو الثالث والرابع فكانا على صلة بمسائل متعلقة بتايوان اي الجزيرة الدولة التي تعتبرها بيجينغ جزءا من الصين وترفض استقلالها بشكل قاطع. وكانا ضد غواتيمالا(1997) ومقدونيا(1999) المعترفتين بتايوان. اذن اربعة فيتوات صينية بين 1972 و2002 مقابل 75 فيتو اميركياً و13 روسياً و14 فرنسياً و27 بريطانياً للفترة نفسها حسب رصد قام به الخبير صامويل كِم. وبينما حفلت سنوات الصين في مجلس الامن بعشرات قرارات الامتناع عن التصويت، جاء الفيتووان الاخيران مع روسيا حول الوضع في سوريا.

ان مراجعة لحجم العلاقات الايرانية الصينية تلقي الضوء على جانب جوهري مهم من التطور الاستراتيجي الذي بلغته هذه العلاقات في مستوياتها المتعددة.وعام 1993، الذي تحولت فيه الصين من مصدّر للنفط الى مستورد له بسبب نموها الصناعي، هو العام المفصلي الذي وصل الى حد ان الصين الآن هي المستثمر الاول في ايران مع وجود مئة شركة صينية عاملة في البنية التحتية للقطاع النفطي بسبب تخلف بنية هذا القطاع وبعقود تقدِّرها دراسة آرون موريس بـ120 مليار دولار بين عامي 2005 و 2010. أضف الى ذلك الاستثمارات الصينية في الجسور وسكك الحديد والمطارات والطرق. ويذكر ان ايران هي المصدّر الاول للغاز الى الصين.

انها ما بات يسميها الخبراء "طريق الحريرالمعاكسة" الجديدة التي تشقها الصين تجاريا واستثماريا نحو اوروبا ومرورا بسوريا. وليست ارقام التجارة الصينية السورية كافية وحدها باي تحليل جدي لتفسير "الفيتو الصيني" الذي يرتبط باعتبارات اكبر من ذلك بكثير جدا ومسرح هذه الاعتبارات يمتد من الخليج الى افريقيا واوروبا. لكن سوريا هي واحد من البلدان العديدة التي حققت فيها التجارة الصينية توسعات مهمة، وكانت مصر ايضا احدها. حتى أن الخبير الاقتصادي "بِن سيمبفاندورفر" في "رويال بنك اوف سكوتلاند" في محاضرة له في مركز الدراسات

الاستراتيجية والدولية في واشنطن (CSIS) ذكر قبل حوالي عامين ونصف العام انه على مسافة اربع ساعات بالسيارة من مدينة شنغهاي تقع مدينة ايوو التي يتواجد فيها وحدها ألفا مترجم صيني الى العربية. وقدّم ذلك كاحدى الظواهر المثيرة المواكبة للنجاح التسويقي للبضائع الصينية. اذ يقول ان مئتي الف تاجر عربي يأتون سنويا الى ايوو ! وهو كاقتصادي ينظر الى هذا النجاح الصيني على انه اساسا نتيجة مبادرات الافراد في دول عديدة في العالم بمعزل عن سياسات الدول حتى لو كانت عوامل موضوعية ساهمت في تعزيزه ومنها أحداث 11 أيلول عام 2001 التي جعلت التجار العرب عموما يستشعرون صعوبة الحصول على تأشيرات دخول الى الولايات المتحدة الاميركية مقابل التسهيلات الصينية.

رغم ما يبدو انه غلبة الاعتبارات الاقتصادية في الاستراتيجية الصينية للشرق الاوسط ومناطق عديدة من العالم خارج شرق وجنوب آسيا حيث الملفات الامنية والعسكرية الصينية المتعددة والمعقدة، فعندما يقرأ المراقب كلام المعارضين الصينيين للنظام داخل الصين وخارجها عن "الربيع العربي" او الانتفاضات التي حصلت، من الصعب أن لا يقتنع كم هذه المسألة مؤثرة في الحسابات الصينية العميقة. بكلام آخر كيف لن تستشعر القيادة الصينية خطرا فعليا على مستقبل النظام من حيث قدرة الغرب على استثمار الاحتجاجات الداخلية في الصين عندما يكرر بعض "المنشقين" كلاما من نوع ما ادلى به العالم اللغوي الصيني الشهير زو يوغ غوانغ الى صحيفة "النيورك تايمز" والمنشور في عددها الصادر في 3 آذار الجاري؟! قال زوغوانغ، وهو الذي قام بابتكار صيغة حديثة للغة الصينية القديمة سُميت (pinyin)، وعمره الآن 106 سنوات فقط، عن الوضع الصيني: "تستطيع ان تقيم نظاما ديموقراطيا بغض النظر عن مستوى التقدم" وأضاف: "يكفيك ان تنظر الى العالم العربي" ويقصد للتأكد من امكان ذلك. (بالمناسبة فان رأيه هذا بنا كعرب هو حمّال أوجهٍ كما يمكن ان تنم عنه هذه الكلمات القليلة جدا! فقد عنى على الارجح: أنظرْ كم العرب متخلفون ومع ذلك تبنّوا الديموقراطية). هذا غيض من فيض في بلد شاسع المساحة والسكان وسبق لنظامه السياسي ان اختبر "ربيعه الخاص" قبل عقدين في أحداث تيان آن مين ويتحسس من موقع الدولة الكبيرة كيف يمكن للدول الكبرى في الغرب ان تحوّل اي احتجاج الى مكسب سياسي مباشر. وهناك خبراء اميركيون يؤكدون ان احد الحسابات الصينية الجادة هو انتظار انتقال موجة "الربيع العربي" الى جمهوريات آسيا الوسطى المحاذية لمنطقة سنكيانغ الصينية المسلمة السكان (ستون مليونا بينما التيبت وكل ضجتها لا تتجاوز الستة ملايين تيبتي). وهذا عنصر مهم يجعل القادة الصينيين اكثر قابلية لرؤية الموضوع السوري في بعده المتعلق بالمخاطر الانفصالية. فاذا كانت الديموقراطية هي الموضوع في بيجينغ، فان الانفصال هو الموضوع في سنكيانغ المسلمة، مثل الفارق بين "هواجس" دمشق العربية وهواجس القامشلي الكردية!.
مع ذلك وعملا بقاعدة السفير هانتسمان: حذار الاطمئنان لأي توقع حول الصين سوى ما اظهرته الى الآن: تعاون واعتراض في آن معا. لكن لا شك ثمة جديد فعلي يحدث في النظام الدولي.

السابق
نتنياهو اسرائيل تشعر بالخطر الايراني ويلمح بمهاجمتها خلال أشهر
التالي
الموارنة مصلوبون بين الربيع العربي وشتائه