السيد محمد حسن الأمين: الآن تُوضع قضيّة فلسطين في مكانها الصحيح

حول "الربيع العربي" كان اللقاء مع العلاّمة السيد محمد حسن الأمين الرائد في الفكر الإنساني النيِّر في العصر الحديث، وهو من الشخصيات النخبوية البارزة في المنطقة العربية والإسلامية التي تشهد تحوّلات جذرية صنعتها انتفاضات الشعوب التحرّريّة التي عملت، ولا تزال تعمل على تحقيق حلمها الأثير، بدكّ أركان عروش أنظمتنا السياسية الاستبدادية واحداً تلو آخر.

وهنا وقائع هذا الحوار الذي تناول محاور عدّة:

ما هي قراءتكم للحراك الثوروي التغييري الذي بدأ منذ عام في منطقتنا وما زال مستمراً والذي تستهدف به الشعوب العربية إسقاط أنظمتها السياسية الاستبدادية؟

ما يجري الآن على مستوى العالم العربي، بصورة عامّة، وفي بعض الدول، ولدى بعض الشعوب العربية بصورة خاصة، هو، من وجهة نظري، مخاض حقيقي يعبّر عن تراكم طويل لم يقيَّض فيه للشعوب العربية أن تُحدث التغييرات والتحوّلات اللازمة والطبيعيّة على مستوى الاجتماع السياسي والذي ظلّت فيه هذه الشعوب أسيرة أنظمة الاستبداد ومصادرة الحريّات والوقوف في وجه طموحات هذه الشعوب وإرادتها في التحوُّل وفي مواكبة التقدّم الذي شهده شعوب العالم، وخاصة منه العالم المُتقدّم.
قد تكون اللحظة الراهنة تنطوي على خصائص ومعطيات مؤاتية لهذا الحراك الثوروي التغييري، وذلك بسبب عدم وجود القابليّة لدى الأنظمة الحاكمة لتقديم بعض التنازلات التي كان بإمكانها، لو حصلت، أن تُوقف إلى حدّ ما، هذا الحراك أو، على الأقلّ، أن تجعل منه حراكاً أقلّ عنفاً في هذه اللحظة الراهنة.
وعليه، فإنني لا أميل، إطلاقاً، إلى وجهات النظر المتشائمة، والتي تجد في بعض السلبيات التي تُرافق هذا الحراك مصدراً للتشاؤم والنظرة السطحية لمستقبل هذا الحراك وجدواه. فما نشهده، في مصر، على سبيل المثال، رغم كلّ السلبيات التي تتّسم بها التحرّكات الشعبية، فإني أراها طبيعيّة، وأرى الخروج من نظام إلى نظام مختلفٍ كلياً، سوف يكون رحلة صعبة، وسوف يواجه فيها المجتمع تحديات كبيرة، ولكنه، بالتالي، سوف يتجاوزها، وأعتقد أن المؤشّر هو باتجاه ولادة أنظمة سياسية أكثر تعبيراً عن إرادة المصريين وعن طموحاتهم وتطلّعاتهم، سواء للحريّات العامة أو للتنمية الحقيقية، وولادة الاجتماع المصري الذي يحلمُ به شعب مصر منذ عقود طويلة.
 كيف تنظرون إلى هذا التحوّل الذي أدّى إلى وصول الحركات الإسلامية إلى سدّة الحكم وتسلّمهم مقاليد السلطة؟

ينبغي أن نتخذ موقف الاحترام لإرادة هذه الشعوب، بصورة مطلقة، وعندما كنا ننادي بضرورة انبثاق أنظمة شرعية للتعبير عن هذه الشعوب، لم نكن نشرط على هذه الإرادة، ولم نكن نستثني منها أي خيار تقع عليه إرادة هذه الشعوب. وعندما يختار شعب مصر أو شعب تونس أو غيره من الشعوب العربية، الخطّ السياسي الإسلامي، ويُوصل إلى سُدّة الحُكم هذه التنظيمات الإسلامية، فإنه ينبغي علينا أن نحترم هذا الخيار، وأن نعطي لهذه النّخبة الإسلامية الفرصة الكافية لكي تُثبت أنها قادرة، وتريد أن تحقّق حُلُمَ التّغيير وإرادة التحوّل والديموقراطية، ومبدأ تداول السلطة، وهو ما أعلنته وتعلنه باستمرار هذه الحركات الإسلامية في مصر وفي تونس وفي غيرها من الدول التي يدور فيها هذا الحراك.
ومن وجهة نظري فإن بعض هذه الحركات الإسلامية؛ بل أبرزها، كالإخوان المسلمين في مصر، قد تطورت كثيراً، وباتت تدرك، أوهي على الأقلّ، باتجاه أن تُدرك معنى الشرعية الحقيقية للسلطة بوصفها مستندة إلى إرادة الشعب أو الأمّة بكامل أفرادها، وليس إلى إرادة حزبٍ معيّن أو تيّارٍ معيّن، كما كان عليه الأمر في السابق.
وإنّي أذكرُ أنني اتخذتُ هذا الموقف بالذات عندما نجح الإسلاميون في الجزائر ببداية التسعينات بواسطة الانتخابات التي جرت آنذاك، أنني اعتبرت إحباط وصول الإسلاميين إلى السلطة هو إحباط لمبدأ الديموقراطية. وأظنّ أن الإسلاميين في الجزائر، على رغم كل الانتقادات التي نوجهها لهذا التيار، لو أنهم وصلوا إلى ممارسة السلطة، لكان الوضع في دولةٍ كالجزائر أفضل بكثير مما هو عليه الآن.

ماذا تقولون للإسلاميين بعد أن وصلوا إلى مواقع الحكم؟

على الإسلاميين أن يدركوا أن اختيار الشعوب العربية الإسلامية لهم، لا يخلو من حذر يشعر فيه المواطنون، بصورة عامة، فهم يختارون الإسلاميين اختياراً مشروطاً، أعني أن الإسلاميين حين يخطئون في إدراك الهواجس الحقيقية لشعوبهم، لجهة الموقف الجدّي تجاه الحريات، وتجاه احترام التعدّد وتداول السلطة، فإنه لن يغفر للإسلاميين عن هذه الشعوب، كونهم يتبنّون الشعار الإسلامي، وفكرة تطبيق الشريعة الإسلامية. فتطبيق الشريعة الإسلامية لا يمكن أن يتحقّق دون شرعية حقيقية، ولا يمكن أن يتحقق من خلال الاستقواء بالسلطة، لأنه، في هذه الحال، سوف يعيد الأنظمة السياسية الجديدة إلى الحالة نفسها التي قامت عليها الثورات السابقة أو ما سُمِّي بالثورات السابقة، والتي كانت تعبيراً عن الطموح القومي والوحدوي لهذه الشعوب العربية. وبسبب تجاوز هذه الأنظمة لشروط الشرعية تحوّلت إلى أنظمة استبدادية.

هناك هاجسان كبيران ينتابان، حالياً، شعوبنا العربية والإسلامية يتمثلان بالتخوّف من الصراع الطائفي بين المسلمين، والخوف على تضييع أهداف الوحدة العربية. كيف يمكن برأيكم، مواجهة هذين الهاجسين؟

لستُ من المتخوِّفين من الهاجس الطائفي بين المسلمين، فالتأكيد على مبدأ الحريّة ومبدأ تداول السلطة، وشرعية السلطة باستنادها إلى اختيار الناس لها سوف يقلِّل من بروز الهواجس الطائفية وسوف يضع الأمّة، بصورة عامّة، أمام التحدّيات الحقيقية في مجال التنمية وإرساء العدالة، وبناء الدولة الحديثة. وستكون هذه الهواجس هي الأكبر لدى الاجتماع العربي، بصورة عامة، وهذا ما سيوفِّر إرساء الأهداف الحقيقية للاتجاهات القومية التي برزت في أربعينات وخمسينات القرن السابق. وستكون قضية الوحدة العربية أكثر جدية في مثل هذا الواقع الجديد حيث ستنجلي وتنكشف، بصورة أعمق، ضرورة هذه الوحدة بوصفها مصدراً حقيقيّاً للتنمية وللتفاعل الضروري للتقدّم الذي تطمح إليه هذه البُنَى الجديدة المفترضة.

ماذا في شأن القضية الفلسطينية في نظركم، في ظلّ الحراك التحوّلي الجاري حالياً في منطقتنا؟

الآن، في نظري، تبدأ المسيرة الحقيقية باتجاه قضية فلسطين. الآن توضع قضية فلسطين في مكانها الصحيح من حركة الشعوب العربية، وتغدو قضية متصلة بصورة عضوية بقضية الحرية والتنمية في العالم العربي، حيث سينجلي، بصورة أوضح، أن وجود الكيان الصهيوني في المنطقة، كان، في الأساس، للحؤول دون هذا التحوّل الذي يهدف إليه هذا الحراك العربي، في الوقت الذي كانت فيه هذه القضية في ظلّ الأنظمة السابقة في أحسن حالاتها، قضية وجدانية حماسية، وليس لها أي مصداقية حقيقية في التوجّه السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي أفرزته هذه الأنظمة، والتي كانت تتاجر في القضية الفلسطينية دون أن تقدِّم لهذه القضية ما تستدعيه وما تستحقه على صعيد الجدية التي تفترضها هذه القضية المركزية للعالم العربي، وإن كان مثل هذا التحوّل الذي أشرنا، في البداية، إلى أنه سيكون بطيئاً نسبياً، سوف يكون بطيئاً أيضاً في إعادة موضعة القضية في مكانها الطبيعي، ولكنه سوف يكون قويّاً وحاسماً في هذا المجال، وسوف تتحقّق لهذه القضية شروط احتوائها واحتضانها بصورة جديّة. وهذا ليس حُلُماً ولكنه نتيجة طبيعيّة لرهاننا على المتغيّرات التي أشرنا إليها.

على امتداد مسيرتكم الفكرية والسياسية واكبتم عدة موجات سياسية تغييرية في مجتمعاتنا، لم تكن بمستوى طموحاتكم وأحلامكم السياسية، فهل يشعر الآن السيد محمد حسن الأمين أنه ينظر باطمئنان إلى الواقع العربي والإسلامي؟

إن لديّ شعوراً حقيقياً بالعزاء، لأنني أشهد بداية هذا التحوّل الذي إذا قرأناه جيّداً، وبدقّة، سوف نلحظ فيه مؤشِّرات طموحاتنا التي كانت تختلج في نفوسنا في المراحل السابقة. أي نحن نشهد الآن بعضاً من أحلامنا التي راودتنا باتجاه استيلاد التحوّلات المنشودة لأمتنا ولمجتمعاتنا.
وتتجدّد الثقة بأن المنطقة العربية ليست كما أرادوا لنا أن نعتقد أنها "رحمٌ عاقر"، منها هو المخاض الذي أشرنا إليه والذي يجب أن نثق به؛ وألاّ يراودنا الإحباط لدى أيّ انتكاسة يمكن أن يشهدها مثل هذا التحوّل. والذي يبدو أن المنطقة العربية كلها – وليست الدول التي أنجزت ثورتها، أو التي هي في طريق الإنجاز – أن كل الدول العربية سوف تأخذ هذا النهج، وسوف تشهد تحوّلاتها، سواء بالأسلوب الذي تحقّق في مصر وفي تونس وفي ليبيا، والذي يجري الآن في سوريا وفي اليمن، أو حتى بأسلوب يختلف قليلاً أو كثيراً. ولربما فاجأتنا بعض الأنظمة – كما نتمنّى – بأنها أدركت أن هذا التحوّل، لا سبيل للوقوف في وجهه، فوضعت نفسها في المكان الذي يسمح بهذا التحوّل ويسمح بمشاركتها في هذا التحوّل. 

السابق
أوبرا إكسير الحب في قصر الأونيسكو
التالي
الشعوب الاكثر سعادة في العالم اليوم