اللبنانيون حائرون.. رفع الأجور أم الأسعار؟!

 ينتظر رياض بفارغ الصبر نهاية كل شهر أو بالأحرى تاريخ حلول أجره الشهري. هو يعرف أن معاشه الذي لا يتعدّى المليون وست مئة ألف ليرة لن يعيش سوى لأيام قليلة الى حين تستنزفه كل الكمبيالات والمدفوعات الشهرية واليومية. 300 ألف للسيارة ونحو 200 ألف ليرة للبنزين، و300 ألف لحاجيات المنزل الضرورية من طعام وشراب. يبقى نصف الأجر أي 800 ألف ليرة فيخصّص منه 300 ألف لقسط ولديه في المدرسة النصف مجانية و300 تقريباً لفواتير المياه والكهرباء واشتراك المولّد والهاتف، و200 ألف يتقاسهما مناصفة وزوجته لتقطيع الأوقات الحرجة. من هذه الحسابات يحذف رياض الدعوات العائلية والمشاوير الطويلة والزيارات في أوقات الذروة حيث يزداد مصروف البنزين، دعوات يحاول غالباً التهرّب من تلبيتها علّه يخفف من عبء مصروف إضافي، وهو كما معظم اللبنانيين يحمل الحكومة المسؤولية عن تردي الأوضاع الاقتصادية للعائلات ذوي الدخل المحدود.
شو الزيادة أقرّت أم لم تقر؟ سؤال لم يتم التوصّل الى الإجابة النهائية عنه بعد، في ظل حكومة ضائعة كما حال قراراتها غير المدروسة التي لا تسمن المواطنين ولا تغنيهم عن جوع بات يتهدّد الكثيرين منهم إذا ما بقيت احوالهم المعيشية على ما هي عليه. حكومة تحوّلت الى مسرح للاختلافات والخلافات ولو توحّدت في اللون، ما جعلها أبعد ما تكون عن "الوطن والعمل" اللذين رفعتهما شعاراً لها. ففي ظلّها تراجعت القدرة الشرائية للمواطن مع رفع المحال التجارية أسعار سلعها إثر فتح ملف الأجور وعداً بزيادتها، تعقيباً على الغلاء العالمي للأسعار. وعد يمكن تشبيهه بالفيروس الذي ما لبث أن تفشى حتى استغل التجار الفوضى. "زيادة الأجور وحدها لم تكن صائبة"، هذا لسان حال الناس الذين حولوا أنفسهم الى اقتصاديين والأمور تصيب معهم كونهم هم الأدرى فحاروا ما اذا كانت الزيادة على الاجور ام الاسعار. أما الإقتصاديون فيعتبرون أنها " ستحمل المواطن على الدوران في حلقة مفرغة وهو ما يسمّى اقتصاديا "وهم المال"، بعدما ترك يصارع شبح الأسعار دافعاً الزيادة للتجار من راتبه الأساسي، في ظل مديرية حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد التي تبدو خارج السمع ولم تكلف نفسها عناء الاجابة عن أيّ من الاسئلة التي وجهناها لها في ما خص الرقابة على الأسعار ومثلها فعلت المحال التجارية التي تمنّعت في معظمها عن الإجابة.
يتحدث رياض وعيناه شاخصتان على ولديه وخوف يعتريه من عجزه عن مساعدتهما في المستقبل الغامض الذي ينتظرهما.. وعندما تحاول زوجته التخفيف عنه لتهدئته توتر أعصابه يجيبها: "ليش شي مرة نزلت الأسعار بلبنان؟ كلّو عم بيزيد.." يمنى جارة رياض بدورها ناقمة على زيادة الاسعار، وزوجها عاجز بمساعدتها على إعالة ولدين وطفلة وترى ان المدخول مهما ارتفع يجد له اسبابا لزيادة النفقات. وتقول صديقتها رحاب بأن الدولة مشغولة بالخلافات السياسية والصراعات الحزبية ولا تعير المواطن أي أهمية لا بل تهمل مشاكله خصوصاً أنها قدّمت الكثير من الوعود ولم تف بأي منها. كلهم يتصرفون بالطريقة نفسها في المحال التجارية. ففي البلاد "الفالتة" أسعارها والمتفلتة حكومتها من كل الضوابط والمسؤوليات، ابتلعت الأسعار كل "فلس" من الرواتب قبل زيادة الأجور. وكما كل السيدات تتجه ريما الى السوبرماركت في نهاية كل شهر وأحيانا كل أسبوع حسب حاجتها، أما في عصر الضيقة الإقتصادية فهي مضطرة الى شراء الحاجيات يومياً وبالتالي فهي تعيش مع عائلتها كل يوم بيومه. وفي جولة بين رفوف السوبرماركت القريبة من منزلها والتي تعتبرها الأرخص بالنسبة الى المحال الأخرى تشير ريما الى أن الحاجيات اليومية ضربت أسعارها الحد الأقصى فبلغ كيلو اللبنة 8750 ليرة لبنانية وحليب البودرة 2.5 كيلوغرامين وصل الى 26 ألف ليرة وكيلو الجبنة البيضاء من نوع عكاوي الى 11600. لذا فهي تشتري نصف كيلو من اللبنة ونصف كيلو من الجبنة وعلبة صغيرة من الحليب في محاولة منها للإقتصاد في المصروف من أجل شراء أنواع أخرى. وبعدما كانت تستخدم اللحوم في تحضير الأطباق اليومية، باتت اليوم تعتمد التقليل منها وتوفّر المال لشراء الحبوب التي ارتفع سعرها أيضاً إنما يمكن أن تحضر الطبق لتناوله ليومين متتاليين. وبالحديث عن الحبوب، تشير ريما الى أن كيلو العدس الأحمر ارتفع سعره حتى 3500 ليرة. والى جانب أطباق الحبوب تحضر صحناً من سلطة الملفوف الذي لا يزال يحافظ على سعر مقبول بين غيره من الخضر خصوصا وأن كيلو البندورة ارتفع حتى 1500 ليرة، وكيلو الحامض حتى 1750 بعدما كان 1000 ليرة وتضيف الى سلطة الملفوف بعض الجزر الذي ارتفع بدوره حتى 1500 ليرة. وتعلق سابين التي تبحث عن عمل لتساعد زوجها في إعالة العائلة وتأمين أفضل الممكن لأولادها، أن الأسعار ما كانت لترتفع لولا حديث المسؤولين عن رفع الأجور. الكلام نفسه يؤكده رئيس جمعية المستهلك الدكتور زهير برو. فحال رياض وريما والعائلات الأخرى ليست استثنائية، بل باتت قاعدة لبنانية بحتة تسري على 83% من العائلات في لبنان المؤلفة من 4 أشخاص والتي تعيش بمبلغ 1.600.000 وما دون. وكلّما ارتفعت أسعار السلع الغذائية الأساسية، ازدادت نسبة العائلات التي تدور في فلك الفقر. وتضم الفئة الأخيرة 50% من الشعب اللبناني، بحسب الإحصاءات، منهم 30 % تحت خط الفقر و20% على الخط ويصرفون بمعدل دولارين يومياً. ويشرح برو " أن السلع التي يرتفع ثمنها كثيراً لا تحقّق سوى انخفاض ملموس "، مؤكداً أن "هذه الارتفاعات مرتبطة بالكلام عن تصحيح الأجور".
لبنان الأعلى والأغلى
يشكل الحد الأدنى للأجور في لبنان الأعلى في كل العالم العربي، وعلى الرغم من ذلك فإن القدرة الشرائية للمواطن اللبناني أقل بكثير منها في سوريا او مصر او المملكة العربية السعودية التي يبلغ الحد الأدنى للأجور فيها 300 دولار، لأن الاسعار في لبنان هي الأغلى في كل منطقة الشرق الأوسط. ويشير سامي وهو أب لثلاثة أولاد الى أنه يختار الحاجيات من السوبرماركت مع زوجته بتأن وينتقي المنتج الأقل سعراً من دون النظر الى النوعية لأنها ما عادت مهمة مقارنة مع الغلاء الفاحش. كما قرّر أن يبقي سيارته مركونة أمام المنزل ليذهب الى عمله " بالسرفيس " أو " الباص" إذا ما توافر لأن سعر البنزين مرتفع خصوصاً وأن مصروفه يزداد مع زحمة السير الخانقة وما عاد راتبه يكفيه لتأمين نقلياته الخاصة. هو كما كثيرين يتمنى أن تخصّ الدولة المواطن، الى جانب اعتمادها سياسة عادلة لرفع الأجور، بتقديمات إجتماعية فلا ينفق راتبه مقابل الحصول على خدمات الطبابة والتأمين الصحي الخاص وغيرها من الخدمات اليومية الضرورية. في هذا الإطار يرى برّو أن " زيادة الحد الأدنى للأجور ستتحوّل الى تسديد الزيادات في الأقساط المدرسية وارتفاع أسعار السلع الأساسية فتنعكس كل هذه الظواهر تضخماً اقتصادياً". ويلفت الى أن " المواطن بحاجة الى الدعم الاجتماعي ضمن سلة تقديمات يستفيد منها اللبنانيون جميعا كالتأمين الصحي والتعليم المجاني، وتأمين فرص عمل للشباب ومحاربة العمالة الأجنبية، وتأمين النقل العام"، واصفاً سكوت الشعب عن السياسة الاقتصادية التي تنتهجها الحكومة بالـ "مصيبة" وسط عالم عربي يطالب بحقوقه.
.. في "الوهم"
المواطن ينتظر الحل، فخاتمة الموضوع لن تكون على هذه الصورة طبعا! واللبنانيون يعربون صراحة عن أنهم ما عادوا يفقهون شيئا في لغة الأرقام والسياسات الاقتصادية، أما الحكومة فهي المطالبة بأن تصحح الوضع الذي أوصلت البلد إليه. سلام وهي أم لولدين، تتمنى أن يتوافق الوزراء المعنيون في الحكومة على خطة عادلة تعطي كل مواطن حقّه وتدعم الخزينة حتى لا يزداد العجز وبأسرع وقت ممكن لأن المواطن يدفع من جيبه الخاص كل الزيادة على الأسعار ومنذ أشهر وحتى اليوم لم يصدر قراراً لزيادة الأجور التي ستقدم للمواطن وسيستخدمها لتسديد ديونه. في هذا الإطار تشير رئيسة قسم الاقتصاد في جامعة البلمند في الشمال الدكتور غريتا صعب الى أن الخطط التي تقدمها الحكومة تضع المواطن في حلقة مفرغة تسمى اقتصاديا "وهم المال". وتلفت صعب الى ان ارتفاع الأسعار استبق زيادة الأجور، وفي حال بدا العمل باي نوع من الزيادة ستصبح من دون قيمة! وبانتظار ذلك، يدفع اللبناني الزيادة على الأسعار مسبقاً من راتبه الأساسي. وتربط صعب الخطط الاقتصادية للحكومة الحالية بالسياسة حيث أن الحلول تأتي على شكل "تطبيقة سياسية"، أما اللوم فيلقى على عاتق الحركة العمالية التي لا تؤدي دورها.
وبالإشارة الى الحركة العمالية، يقول مروان وهو موظف ومعيل لوالديه وزوجته أن موضوع ارتفاع الأسعار ومماطلة الحكومة في إقرار خطة اقتصادية عادلة، يستحق النزول الى الشارع ورفض كل السياسات الاقتصادية التي لا تخدم المواطن بل ترضي السياسيين الذين لا يراقبون الأسعار. والخطة العادلة، بحسب صعب، تكون عبر زيادة الضرائب خصوصاً الضريبة على القيمة المضافة بشكل لا يرهق المواطن. وترى أن السياسة الاقتصادية في لبنان لا تزال ضعيفة والمسؤولون يستخفون بآراء اللبنانيين، مبدية أسفها حيال انقسام الاتحاد العمالي العام الذي يترأسّه غسان غصن وهو محسوب على طرف سياسي، ما يخفّف من قدرة النقابات الأخرى والموظفين والعمال على التفاوض مع الحكومة.

تضخم.. ضخم

في العام الماضي بلغ التضخم في لبنان 16 في المئة. لماذا؟ الارتفاع المفرط في المستوى العام للأسعار، ارتفاع المدخول النقدي مثل الأجور أو الأرباح، ارتفاع التكاليف والإفراط في خلق الأرصدة النقدية. كلّها ظواهر يختبرها اللبنانيون يومياً. لكن للأسف تنبئ مجتمعة أو منفردة بالتضخم وهو من أكبر المصطلاحات الاقتصادية شيوعاً. ويميز مصطلح التضخّم بالظاهرة التي يطلق عليها وبذلك تتكوّن مجموعة من المصطلحات وتشمل: تضخم الأسعار وهو الواقع في لبنان، تضخم الدخل (الأجور والأرباح) وهو ما كانت الحكومة تسعى الى إقراره، تضخم التكاليف أي ارتفاع المواد الأولية، التضخم النقدي: وهو الإفراط في إصدار العملة النقدية وهي مهمة محصورة في مصرف لبنان وتضخم الائتمان المصرفي.

التصحيح.. بالقانون

منذ العام 1996، لم يشهد لبنان أي تصحيح للأجور، باستثناء الزيادة المقطوعة التي أعطيت للقطاعين العام والخاص في العام 2008 بواقع 200 ألف ليرة على الرواتب والأجور، ورفع الحد الأدنى من 300 ألف ليرة إلى 500 ألف ليرة. وبالتالي فإن معدلات التضخم تتراكم منذ 15 عاماً من دون معالجة تأثيراتها على انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين. أما إعادة النظر في الحد الادنى الرسمي للأجور فيجب ان تتم قانونا بصورة سنوية على الاقل، وذلك تطبيقا لنص الاتفاقية العربية رقم 15 لسنة 1983 بشأن تحديد الاجور وحمايته. واستنادا الى القوانين طعن مجلس شورى الدولة بمشروع القرار الذي قدمته حكومة ميقاتي حيث إن المرسوم يستثني فئة العمال والمستخدمين الذين تزيد أجورهم الشهرية على مليون وثمانمئة الف ليرة من أي زيادة، في حين أن غلاء المعيشة هو مسألة واقعية يفترض أنها تطال جميع المستخدمين. كما أن إعطاء الزيادة بالشكل المقترح يخالف التفويض المعطى من المشترع بموجب المادة 6 من قانون 1967 لأسباب عدة، منها أنه يعطي زيادة على الاجور محددة بمبلغ معين من المال، في حين أن المقصود بالمادة 6 هو تحديد نسبة غلاء المعيشة وتحديد كيفية تطبيقها.
 

السابق
ندوة حول حقوق الإنسان في صيدا
التالي
أزمة عميقة داخل “حزب الله” والخوف الأكبر من سقوط الأسد