طاعون الأقليّات

الأقليّات مصابة بالطاعون، وهي ترفض أي أسلوب لاحتواء الأضرار. تصرّ على نشر طاعونها أينما ذهبت، وفي كل المدن والدول المحيطة، سواء أكانت تعيش فيها أم تعبرها في هجراتها إلى الغرب. الأقليّات ليست فقط من المسيحيين، وليست من الشيعة بالضرورة، وليست من السنّة وحدهم. هي حالة عمّت المنطقة العربية ولا تزال، واليوم تعمل على إحباط الحراك العربي، ووسم الثورات العربية بالرجعية، وتسعى إلى دفعها إلى التعامل مع الغرب دفعاً، وإلى ارتداء لحية تنظيم القاعدة وعباءته حتى تجد ما يكفي من المبررات للحفاظ على انتشار الطاعون في المنطقة.
الأقليّات المصابة بالطاعون ترفض الاعتراف بأمراضها. ترى أنها الوحيدة المتحلية بالصحة الكاملة، بينما الآخرون، كلّ الآخرين، مصابون بتشوّهات خلقية لا جدوى من محاولة علاجها.
الأقليّات المصابة بالطاعون ترى في ما يناسبها حلولاً شافية لكل المحيطين بها. فإذا لاءم إطار الحكم القلة، فحكماً (برأي الأقليات المطعونة) سيلائم الكثرة.
الأقليات هذه حكمت المنطقة منذ اتخذت المنطقة شكلها الحديث، مرة باسم تحالف آل عبد الوهاب مع آل سعود، وحيناً باسم قبائل ضد قبائل أخرى، وأحياناً باسم السنّة ضد أكثرية شيعية، وحيناً لأنه «يحق للمسيحيين دولة في الفضاء الإسلامي العربي»، وطوراً باسم حزب البعث، وطوراً آخر باسم الحركات التصحيحية، وهي دائماً تعرف كيف تدخل إلى الحكم، ولكنها تتوه أثناء محاولتها الخروج من القصور الرئاسية. 
الأقليات المصابة بالطاعون تنشر الرعب. فإن حاول أحد إزاحة سلطتها، لا تتوانى عن افتعال حروب أهلية، وهي تقطع الأيدي والألسن والرقاب، وترمي المعارضين من الطائرات في الصحراء، وتستخدم جيوشها للدفاع عن طاعونها وعن بقائها في السلطة ومواصلة نشر أمراضها.
المسيحيون في لبنان لا يشذّون عن هذه الأقليات، بل هم بصفتهم أقلية خسرت حكمها بعد حرب دامية ومدمرة، صاروا أشد خوفاً، وراحوا يرون في كل شيء تهديداً لهم؛ فالمقاومة تهديد مباشر لهم، والثورات العربية تهدد وجودهم، والتعديلات في القوانين الانتخابية مؤامرة ضدهم، وعلى الأكثرية (سواء أكانت شيعية أم سنيّة أم بوذية) أن تسلمهم السلطة، بصفتهم مسيحيين، لا بصفتهم ساسة وممثلين لمصالح عامة، ومدافعين عن فئات معينة (بغض النظر عن انتماء هذه الفئات المذهبي).
عصفت الحرب بالعراق. دمّر الأميركيون البلاد التي أيضاً حكمتها أقلية بعثية ضمن أقلية سنيّة، كانت تدلل المسيحيين وتضطهد السنّة والشيعة على حدّ سواء. وبعد احتلال العراق وبداية الحرب الأهلية، سقط ما بين 120 ألفاً ومليون و600 ألف مواطن عراقي قتيلاً (تتفاوت الأرقام بحسب الجهة التي تقدمها)، إلا أن المسيحيين في لبنان لم يشاهدوا إلا مأساة الأقلية في العراق، والأقلية المسيحية حصراً، واتهموا بها دون تردّد جهة واحدة وحيدة، وسمّوها «الأصولية».
لم يتعلم أحد الدرس من العراق، ولن يتعلم أحد الدرس ممّا جرى في لبنان، ولا ليبيا، حيث حكم القذافي مندوباً عن القذاذفة، وغصباً عمن يعارضه، ولن يتعلم أحد الدرس السعودي حيث الإصرار على تصفية المعترضين، و«تأييد حقوق الشعوب العربية ومطالبها»، ولكن إن اقترب الهواء الثوري النقي من الخليج رفع السعوديون السيف، واستخدموا أحدث التقنيات الأميركية لسحق المعارضة البحرينية، وحجتهم، كأقلية جاهزة، كحجة الأقليات الأخرى. فالثوار ينتمون إلى «آخر»، وهذا الآخر له مطامع ويمثّل خطراً على المنطقة، هو في الخليج إيران، وفي سوريا ولبنان هو سلفي جهادي متطرف وتكفيري وقاعدي، ولدى الأكثر «تقدمية» هو عميل للناتو ومتعامل مع الغرب.

يبدو الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله كشخص أخير يفكّر بمنطق، ويتصرّف بحكمة. أعلن الرجل موقف حزبه المؤيّد للنظام في سوريا، وأعلن أيضاً أحقيّة مطالب المحتجين الثائرين في أرجاء البلاد هناك، وقال إنه يعلم سلفاً الثمن الذي يجب عليه أن يدفعه لقاء هذا الموقف، وحدّد الخصم والعدو، وأضاف إلى أعدائه التقليديين من الغرب وإسرائيل عدواً جديداً، هو ما يراه يمثّل خطراً عليه وعلى الآخرين: التكفيريون وتنظيم القاعدة.
تنبع هذه المواقف من رؤية ومعلومات يفترض أنها متوافرة لدى الحزب: هناك من قد يستخدم التكفيريين أو الإسلام القاعدي لمواجهات محلية لا تنتهي في المنطقة، وهي خشية يمكن نقاشها، إلا أنها لا تشبه بكثير طاعون الأقليات التي تعلن من بيروت استعدادها للقتال في أيّ بقعة تشهد تغييرات في المنطقة، دفاعاً عن أبناء المذهب والملة والدين.
والمصيبة أن بعض المتحالفين مع حزب الله يزايدون عليه في حمايته من خطر «الإرهابيين المتطرفين»، فيشبهون في دعايتهم قناة العربية والمملكة السعودية في تسويقهما لمكافحة الإرهاب.
لن تكون المنطقة نهباً للسلفية الجهادية إلا إذا واصل الحريصون على الطاعون الأقلوي قمع الأكثرية. فذلك ما حصل ما بين عامي 1991 و2007، وهو ما يمكن تكراره إذا ما استمر دفع الثورات إلى أحضان الناتو والدم، دفعاً وقسراً. 

السابق
لعبة الشرق الأوسط الجديدة
التالي
عيون زرقاء.. في 20 ثانية