رهانان على سوريا: استقواء أو استعداء

في المكتوم، أو حتى في لاوعي الفريقين السياسيين المتصارعين في لبنان، رهانان متقابلان على الوضع في سوريا، علماً بأن بعض جوانب هذين الرهانين يظهر أحياناً الى العلن، في مواقيت مرتبطة بموازين القوى وحسابات «الانهيار» أو «الانتصار».
رهان الفريق الحريري واضح معلن. يستمد «تاريخيته» من تركيبة معقدة من الدوافع والحوافز. بعضها مذهبي، على قاعدة انتصار أهل السنّة وحكمهم لما قد يعود عندها قطرين من أقطار سوريا الكبرى أو الوسطى. وبعضها مصلحي اقتصادي يرتبط بالنهج الاستثماري الذي أرساه المغفور له رفيق الحريري بين البلدين والسلطتين منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي. وبعضها ـــــ أكان ذريعة أم واجهة ـــــ مرتبط بنظريات إرادات الشعوب والربيع الموسمي لناس ومنطقة وتسويقات حرية وديموقراطية وحداثة وعصرنة. 

مهما كانت الخلفيات، وكيفما كانت نسب توزع القوى الحريرية على تلك الدوافع المذكورة، يظل الأكيد أن فريقاً سياسياً كاملاً في لبنان، يلامس نصف قواه السياسية بتقارب وليد جنبلاط معه، قرر منذ أشهر طويلة الاستقالة من الحياة السياسية الداخلية، والالتزام بسياسة الانتظار الخارجي. وإذا ما احتسبت فترة الشلل في حكومة سعد الدين الحريري، وصولاً الى سقوطها، ومن ثم حكومة نجيب ميقاتي واندلاع الأحداث السورية، منطلق تلك السياسة الانتظارية، يتبين لنا أن نصف لبنان قرر منذ سنة كاملة الاعتكاف و«الحرد» السياسي، والتنازل عن دور أساسي في ثنائية الديموقراطية، هو دور المعارضة البناءة، والاكتفاء بقراءة أخبار درعا وجسر الشغور وأخواتهما، لإيمان راسخ لدى هذا النصف بأن نتائج تلك الأحداث وحدها، ستكون الدرع الحامية لحضوره السياسي في لبنان، وجسر العودة من الشغور السياسي الى السلطة الكاملة.

في المقابل، ثمة فريق آخر، يمثل نصفاً لبنانياً آخر، لا يبدو مختلفاً بسلوكه السياسي والعملي، رغم اختلاف المواقع. فريق وصل الى السلطة في كانون الثاني الماضي، وكرسها حكومياً منتصف حزيران الفائت، ولا يزال يتصرف ويظهر كأنه خارجها. أو كأنه معارض لسلطة فعلية غير منظورة. وفي هذا المشهد المقابل، لا يخفى على أحد أن جذوره الأساسية تعود الى اعتبار هذا الفريق في لاوعيه أو عمق فكره السياسي، أنه اليوم ليس السلطة التنفيذية المسؤولة عن دولة هي لبنان، بقدر ما هو المعارضة العملية لسلطة كبرى مسؤولة عن الهجوم على المنطقة، بدليل ما يحصل في سوريا. وفي واقع الأمر، تحول الفريق الحكومي المقصود الى النهج الانتظاري نفسه، مع تباين خلفيات حسابات مكوناته الداخلية. فهناك داخل الحكومة من «ينتظر» ليبدل تموضعه وينقلب على ذاته، وهناك من «ينتظر» ليتكيّف مع لعبته المفضلة في تقطيع الوقت والسير بين النقاط واعتبار الشأن الوطني اللبناني إدارة دائمة لأزمة مزمنة بل أبدية. وهناك من «ينتظر» لتنتصر سوريا على أزمتها، و«تخرج من محنتها أقوى مما كانت عليه»، كما يرددون، ليطلقوا مسلسل تصفية الحسابات مع كل «الانتظاريين» الآخرين.
هكذا يبدو لبنان اليوم دولة معلقة. وهو واقع مستمد ربما من نظرية تاريخية قديمة تقول إن لبنان نفسه كوطن، لم يكن أبداً إلا حالة تسوية مستدامة في الوقت والأرض. وهو قائم على ناس فاقدين ذاتياً لشرعيتهم في الحكم وتعاطي الشأن العام. وهو ما دفعهم منذ كانوا، الى التوزع على محورين: محور الاستقواء بالخارج على بعض الداخل من أجل اكتساب شرعية التبعية، مقابل محور استعداء الخارج على معظم الداخل توسلاً لشرعية ديماغوجيا «القومية البلدية». المشهد نفسه يكاد يظهر في انتظاريّتنا الكبرى الآن، رغم تطور ماكينات التجميل والتمويه، من حقوق الإنسان، الى مواجهات المؤامرات الدولية الكبرى.
وسط تلك المأساة، ماذا لو أن الأحداث في سوريا باتت منضبطة بين حدين اثنين، أو ربما استحالتين: أولاً استحالة أن تعود سوريا الى ما كانت عليه قبل 17 آذار الماضي، وبالتالي سقوط رهان «انتظاريي» تصفية الحسابات. وثانياً استحالة أن يسقط الحكم في سوريا على طريقة تونس أو مصر أو ليبيا، وبالتالي سقوط الرهان المقابل لجماعة «انتظاريي» الانقلاب الآتي والثأر المؤكد. وماذا لو كانت سوريا بين هاتين الاستحالتين مفتوحة على هامش واسع من احتمالات المراوحة الطويلة الأمد، بين استمرار الوضع كما هو عليه أو تطوره بفوارق هامشية مختلفة ضمن الاستحالتين المذكورتين. ماذا يفعل عندها لبنان؟ وماذا يفعل انتظاريوه من الطرفين؟
المشكلة الواقعة أن أحداً من القوى الأساسية لم يعد خارج هذا الاصطفاف، بما يسمح بقيام دعوة جدية واحدة، الى الخروج من لعبة الوقت القاتل، والدخول الى قضية الوطن الضروري والواجب الالتزام، وخصوصاً أن ضحيتها هو المواطن لا السياسي، فقصورهم تنتظرهم في كل عواصم الغرب، أما بيوتنا المتواضعة فوحدها عرضة لدمار الانتظار. 

السابق
من يقول أحبك أولاً؟
التالي
الهواتف الخلوية أكثر من عدد السكان !!