من الهواجس حيال الربيع العربي

لو أنّ رياح التغيير كانت اقتصرت على الأنظمة العربية التي تُجمَل عادة ضمن "خط الإعتدال" ولم تتعدّ ذلك إلى الأنظمة التي تصنّف نفسها في "خطّ الممانعة" لكانَ الأمر محرجاً فعلاً بالنسبة إلى القوى الليبراليّة في العالم العربيّ، كما بالنسبة إلى مشروع الإستقلال الثاني في لبنان. لأجل ذلك يمكن القول إنّه في كانون الثاني وشباط من هذا العام، كان الرهان على إمتداد عدوى الحريّة لقضّ مضاجع أنظمة الممانعة، هو الرهان الذي بنى عليه أنصار مشروع الإستقلال الثاني، للإلتحاق من بعد أخذ وردّ بركب "الربيع العربي"، وصولاً إلى التبرّع لهذا الربيع الإقليميّ بأصول لبنانية له، جرياً على العادة اللبنانية الأثيرة في إصطناع أصول لبنانية لكل ما يتجاوز رقعة الوطن.

لا وجاهة لأي شكل من أشكال المكابرة على هذا التردّد الآذاريّ الأوّل حيال الربيع العربيّ في محطتيه الأوليين (تونس ومصر). ولئن كان في هذا التردّد شيء يستدعي التنبّه إلى "عدم جذريّة" القوى التي تشكّل النسيج الإستقلاليّ اللبنانيّ الثاني، ففيه أيضاً ما ينبغي تقديمه كمثال نموذجيّ لكل من يبدي مخاوفَ وهواجسَ حيال المحطات التالية من الربيع العربيّ الكبير.

ففي هذا التردّد أمام الموقف الذي ينبغي إبداؤه حيال الثورة المصرية عند تسارع أحداثها وعشية بلوغها الأوج، حضرت مخاوف وهواجسَ من أنواع شتّى: فالنظام المصريّ السابق كان سلطويّاً لا ديموقراطيّاً لكنّه أتاح هامشاً نسبياً من التعدّدية السياسية ومن الحرّيات، وإذا كان معيار تنحية الأنظمة هو تنحية الأكثر إستبداداً وطغياناً فمن المؤكّد أنّ نظام الرئيس السابق حسني مبارك ما كان ليجيء في المقام الأوّل. ثمّ أنّه إستناداً لـ"المعيار الوطنيّ المصريّ" نفسه الذي سكن ثورة الشعب المصريّ منذ البدء، كان من الطبيعي أن يلتفت المصريّون لتحقيق شروط العبور إلى الحرية في مصر أوّلاً، كما كان من الطبيعي أن يلتفت اللبنانيّون لتحقيق شروط العبور إلى الحريّة في لبنان أوّلاً، وفي هذا السياق فإنّ النظام المصريّ السابق كان من الأنظمة العربية التي تبدي موقفاً إيجابياً حيال تحرّر اللبنانيين، وكان لا بدّ من لحظة "تردّد" مضمرة أو مجاهر بها حيال سقوط هذا النظام، في مقابل النشوة المبالغ فيها التي أبداها "الحزب السجّان" للشعب اللبنانيّ أمام هذا السقوط، كما لو أنّ خلية الإفساد في الأرض التي بعثها "الحزب السجّان" في وقت سابق إلى أرض الكنانة كانت النطفة التي خصّبت الثورة في وادي النيل!
 
لكنّ المماثلة جاءت في الوقت نفسه سريعة، بل شبه مباشرة، عند حملة مشروع الإستقلال الثاني، بين ساحة الحريّة في 14 آذار 2005 وبين ميدان التحرير، وعاشت 14 آذار الرسمية منذ انفجار الثورة المصرية ضغطاً شعبياً واسع النطاق لجعلها تتبنّى بشكل شجاع ولا لبس فيه كامل أجندة الثورة المصريّة دون التباس. وأوسع من ذلك كانت المماثلة بين مشاهد قمع البلطجية للثوّار الشباب في مصر وبين المأثور من المشاهد القمعية لـ"الوصاية" و"النظام الأمنيّ" و"الحزب السجّان" بحق الشعب اللبناني. بالتالي، كانت الهوية الإنتفاضية لـ14 آذار، جنباً إلى جنب مع المعايير الإنسانية الأخلاقية وتقاليد مناوئة القمع، وأسهم كل ذلك في حسم التردّد بشكل سريع، إلى جانب الثورة المصرية، رغم كل الهواجس السياسية المبرّرة، من الأسئلة حول تداعيات انهيار نظام معتدل في مقابل بقاء أنظمة ممانعة أكثر بطشاً وقمعاً لشعبها، وتداعيات انهيار نظام متفهم ايجابياً للحركة الإستقلالية اللبنانية، في مقابل أنظمة تواصل قضم الإستقلال اللبناني والدعم العضويّ المتمادي لأعداء الديموقراطية والسلامين الأهلي والإقليميّ في الداخل اللبناني، وكذلك كانت هناك الأسئلة حول التيّار الإسلاميّ في مصر وخياراته، خصوصاً في ظلّ مسارعة نظام الملالي الإيراني للإستبشار بقرب ولادة شرق أوسط إسلاميّ (بالمعيار الخمينيّ للكلمة)، ويعطف على ذلك السؤال حول المسألة القبطية.

ينبغي ألا يخجل أنصار المشروع الإستقلاليّ اللبنانيّ من إستذكار لحظة تردّدهم تلك حيال الزلزال الثوريّ الذي عصف بمصر، خصوصاً وأنّهم حسموا التردّد بشكل سريع نسبياً، في إتجاه داعم للربيعّ المصريّ، وفي إتجاه التعرّف على ذاتهم في هذا الربيع، ولم يكن حسم التردّد بهذا الشكل ممكناً لولا اعتماد المعيار الإنسانيّ الأخلاقيّ في مواجهة آليات القمع والبطش، واعتماد معيار الهوية النضالية الكفاحية لثورة الأرز (ساحة 14 آذار، ميدان التحرير)، واعتماد معيار البعد العربيّ للإستقلال الثانيّ (تركة سمير قصير)، واعتماد معيار الانسجام مع الموقف العام للمجتمع الدوليّ، ويتصل بكل ذلك الرهان على أنّ الربيع أطاح بنظام "معتدل" في مصر لن يلبث حتى يطيح بأنظمة "الممانعة".

لقد انطلق أنصار الإستقلال الثاني من "مخاوف وهواجس" هم أيضاً يوم تعلّق الأمر بثورة مصر، لكنّهم ما أن حاولوا الإجابة على هذه المخاوف حتى داهمتهم معاييرهم: ثقافة حقوق الإنسان، وتركة سمير قصير، والديموقراطية بمنظور عالميّ، والرهان على أن يمتدّ الربيع من معسكر الإعتدال إلى معسكر الممانعة.
في المقابل، أولئك الذين انتشوا في الأيام الأولى من الربيع العربيّ، اعتقاداً منهم بأنّها الممانعة، بل الخمينية السياسية، التي ستمتد إلى مصر وتونس، عادوا بعد ذلك، ومنذ الثورة الليبية، وبشكل أساسيّ وفاضح منذ الثورة السوريّة، للإحتماء وراء "المخاوف والهواجس"، إنّما لم يكن ثمّة "تردّد" إلا على نحو عابر عند معظمهم، لأنّ ثقافة حقوق الإنسان لا تعني لهم الشيء الكثير، وبدلاً من معيار الديموقراطية بمنظار عالميّ، يريدونها ممانعة شعبوية عالمية بوجه الإمبراطورية الغربية الشاملة، وبوجه الديموقراطية الليبرالية بشكل أساسيّ.
لأجل ذلك أيضاً فإنّ "المخاوف والهواجس" التي من المعقول جدّاً أن تطرح لدى المسيحيين ينبغي أن تنحو نحو "المخاوف والهواجس" التي بدّدتها تجربة 14 آذار سريعاً حيال الثورة المصرية، وليس أبداً في الإتجاه الذي سارت عليه قوى الممانعة المنكوبة بعد انتشائها بالثورة المصرية، بامتداد الثورة الى ليبيا ثم سوريا. فالمعايير التي اعتمدتها التجربة الـ 14 آذار هي معايير صميمة جدّاً لدى المسيحيين، سواء تعلّق الأمر بثقافة حقوق الإنسان، أو باعتماد نظرة عالمية إلى انتشار الديموقراطية. 

السابق
الوطن أساس الانتماء
التالي
كنعان: إجتماع لجنة المال اليوم فرعي ولن يطرح موضوع تمويل المحكمة