أين كان معمّر القذّافي وأين صار؟

هناك أحداث يفترض عدم تركها تمرّ مرور الكرام. من بين هذه الأحداث الوثائق التي اكتشفت حديثاً في طرابلس الغرب، والتي توفّر فكرة عن عمق التعاون الذي كان قائماً في مرحلة معيّنة، ابتداء من العام 2004 تحديداً، بين الأجهزة الامنية الليبية من جهة والأجهزة الاميركية والبريطانية من جهة أخرى. الأهمّ من ذلك، أن هذه الوثائق دليل قاطع على دخول عملية إعادة تأهيل النظام الليبي، في فترة معيّنة، مرحلة متقدمة بعدما كان هذا النظام قبل أعوام قليلة منبوذاً وخاضعاً لشتى أنواع العقوبات الدولية، بما في ذلك حظر جوي على كامل الأراضي الليبية.
تكشف الوثائق، حقيقة نظام العقيد معمّر القذافي بصفة كونه نظاماً غير قابل للإصلاح رفض دائماً أن يتعلّم شيئاً من دروس الماضي مهما كان قريباً. ولذلك، كان طبيعياً أن ينتهي القذّافي بالطريقة التي انتهى بها وهو الذي اعتقد دائماً أن في استطاعته ممارسة النزق بكل أنواعه وأشكاله لمجرد أنه استطاع اخضاع شعبه واذلاله ولمجرد أنه يتحكم بالنفط الليبي. أين كان معمّر القذّافي قبل أعوام قليلة وأين صار الآن؟
يصعب فهم كيف أن حاكماً مرّ بكل التجارب التي مرّ بها معمّر القذّافي ظلّ يرفض التعرف إلى موازين القوى في العالم والاعتراف بها. هل هو وهم الدور الإقليمي الذي أودى بالقذّافي، أم أن الرجل مريض نفسياً. ربما كان هذان العاملان معاً وراء المصير الذي لقيه صاحب «الكتاب الأخضر» الذي يمكن اعتباره في أحسن الأحوال نكتة من النوع السمج…
لا يختلف اثنان بين الذين سنحت لهم فرصة التقاء القذّافي، على أن الرجل يتمتع بذكاء حاد ولكن ضمن حدود معينة لا يستطيع تجاوزها، بل يمكن القول أنه واقع في أسرها. يمكن وصف هذا الذكاء بأنه نوع من أنواع الدهاء الذي يستخدم في عملية الهدم وليس البناء. الدليل على ذلك تلك القدرة العجيبة التي امتلكها الزعيم الليبي الفار على تدمير ليبيا ونشر البؤس في كل أوساط الشعب، والدخول في مشاريع لا تصبّ إلاّ في الإساءة إلى الآخرين، بما في ذلك شعبه.
على سبيل المثال وليس الحصر، لماذا تورّط القذّافي في حروب لبنان وأرسل كل تلك الكميات من المال والأسلحة إلى مجموعات لبنانية أو فلسطينية بغية توريطها أكثر في حروب لا تصبّ سوى في خدمة القضاء على الوطن الصغير، لماذا اختار دعم كلّ من سعى إلى الإساءة الى القضية الفلسطينية من بين الفلسطينيين، أي تلك المنظمات التي لا تصلح سوى أن تكون أدوات للإيجار، لماذا خطف الإمام موسى الصدر ورفيقيه، لماذا كلّ هذا العداء لمصر والسعودية وتونس، في مرحلة معيّنة طبعا، والمغرب أوّلاً وأخيراً، لماذا تزويد إيران بصواريخ خلال حربها مع العراق بين العامين 1980 و1988، علماً بأنّ هذه الصواريخ استخدمت في قصف بغداد، لماذا كلّ هذا العداء لصدّام حسين، علماً بأنه أكثر شخص يشبه القذّافي من ناحية قصر النظر والوحشية في التعاطي مع الناس والعجز عن فهم ما يدور في العالم، لماذا الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة ومع اوروبا، لماذا الذهاب إلى تشاد وخسارة بعض أفضل الضباط الليبيين في معارك خاسرة سلفاً، لماذا التورط في عمليات إرهابية من نوع كارثة لوكربي، أو دعم «الجيش الجمهوري» في ايرلندا، أو اغتيال معارضين ليبيين في الخارج بصفة كونهم «كلاباً ضالة»؟
 
تصعب الإجابة عن أي سؤال من هذه الأسئلة، أو عن عشرات الأسئلة الأخرى التي يمكن طرحها لدى التطرق إلى تصرفات رجل تحكّم بمصير ليبيا طوال اثنين وأربعين عاماً. ولكن يبقى أصعب من ذلك كلّه كيف استطاع القذّافي إيصال نفسه إلى هذا المصير بعدما قبل المجتمع الدولي، على رأسه الولايات المتحدة، بإعادة تأهيل نظامه؟
يكمن الجواب في أن أنظمة من هذا النوع غير قابلة للإصلاح، تماماً كما حال النظام السوري حالياً، والنظام العراقي ايّام صدّام حسين. مثلما لم يفهم صدّام حسين في العام 1988 لماذا لم يُهزم في الحرب مع إيران، لم يستطع معمّر القذافي استيعاب معنى طي المجتمع الدولي صفحة الماضي وإعادة فتح أبواب اوروبا والعالم أمامه اثر تخليه عن اسلحة الدمار الشامل. ظنّ أنه بات لديه ضوء أخضر يسمح له بقمع شعبه مجدداً بمجرد أن اجهزته صارت تنسق مع الأجهزة الأميركية والاوروبية. كان هذا التنسيق بداية إيجابية يمكن البناء عليها ولم يكن نهاية المطاف. لم يدرك في أي لحظة أنه لا يزال تحت المراقبة وأن عليه تغيير سلوكه بالكامل داخل البلد وخارجه. ولكن ما العمل عندما يغلب الطبع التطبع؟
ينتمي معمّر القذّافي إلى مجموعة من الحكام العرب تعتقد أن العالم يدور حولها. كان في استطاعته اجراء الاصلاحات المطلوبة بعد الاعتذار من شعبه والمباشرة في بناء دولة مؤسسات بعدما رضخ لكلّ الشروط الأميركية في العام 2003. فضّل العودة إلى عاداته القديمة لا أكثر ولا أقلّ، علماً بأنّ نجله سيف الإسلام كان يمتلك مشروعاً إصلاحياً متكاملاً يعتمد في تنفيذه على مجموعة من الليبيين المتعلّمين على علاقة بما يدور في العالم، وقد فضّل بعضهم معارضة النظام والخروج من البلد في مرحلة معيّنة قبل أن يقنعهم سيف بالعودة إلى البلد. انتهى المشروع الإصلاحي لسيف قبل أن يبدأ بسبب تعنّت الأب أوّلاً. لم يبق أمام معمّر القذّافي وأفراد عائلته سوى تبادل الاتهامات بين بعضهم البعض… أو الدخول في مزايدات لا تقدّم ولا تؤخّر. كل ما في الأمر أن الرجل لم يدرك أن العالم تغيّر وأن إعادة فتح أبواب اوروبا له لم يكن اقتناعاً بـ«الكتاب الأخضر» وبنظرياته الخرقاء بمقدار ما كان فرصة أخيرة لم يحسن استغلالها لا أكثر ولا أقلّ. 

السابق
الراي: الراعي أمام تحدي إزالة الأضرار على صورته المهتزّة
التالي
هل يجوز الإبقاءعلى السيئ خوفاً من الأسوأ؟