ثغرات قانونية..تتضارب والأدلّة الظرفية

لم يشأ مدعي عام المحكمة الخاصة بلبنان القاضي دانيال بيلمار أن يترك بصمات مميّزة في قراره الاتهامي الذي خلا من رواية كاملة لحقيقة ما جرى في 14 شباط 2005، واستعاض عنها بثغرات كبيرة في سطور ما كتب وما توصّلت إليه تحليلاته واستنتاجاته مع العاملين في مكتبه من ضبّاط استخبارات دول أجنبية من كل حدب وصوب.

حاول بيلمار أن يطمس تحقيقات كثيرة قام بها القضاء اللبناني ولجنة التحقيق الدولية خلال فترة اتهام سوريا و«النظام الأمني اللبناني السوري المشترك» بجريمة الاغتيال، أبرزها التحقيقات الرئيسية مع مجموعة الـ13 الأصولية التابعة لتنظيم «القاعدة»، ثمّ جاء هو ليتهمّ أربعة مقاومين بالضلوع في اغتيال الحريري، فهل غاية هذا الالتفاف على التحقيقات السابقة والتي أخذت وقتاً طويلاً وصرفت عليها أموال كثيرة، إقفال ملفّ شهود الزور الذين أغرقوا التحقيق في المرحلة الماضية بأكاذيب وافتراءات ذهبت أدراج الرياح وكادت أن تذهب بالقضية برّمتها وتضيّع دماء الحريري؟

وهل اتهام «حزب الله» جاء ليغطّي على كلّ الاتهامات السابقة؟ فكيف إذن، يفسّر بيلمار انتقال الاتهام من سوريا والضبّاط الأربعة إلى «حزب الله»؟ وهل كان التحقيق مخطئاً على مدى أربع سنوات ثمّ وجد ضالته وبوصلته الحقيقية بمجرّد أن ترك بيلمار رئاسة لجنة التحقيق واستلم منصب المدعي العام؟ وماذا كان يفعل سلفاه ديتليف ميليس وسيرج برامرتز؟
فما ذكره بيلمار ووافقه عليه قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين لا يتفق على الإطلاق مع اعترافات «مجموعة الـ 13» التابعة لتنظيم «القاعدة» والتي أقرّت باغتيال الرئيس رفيق الحريري قبل أن يجبر «فرع المعلومات» أحد مسؤولي هذه المجموعة، وتحديداً المسؤول العسكري السعودي فيصل الأكبر الذي كان قد شارك في معارك عدة في أفغانستان والعراق، على التراجع عن أقواله التي ظنّ القائمون بالتحقيق أنّهم حصلوا على صيد كبير يفيدهم في التحقيق في جريمة الحريري، قبل أن يسحب الأكبر في منتصف ذلك الليل العاصف من التحقيق المضني والطويل ويغيّر شهادته إلى حد اعتبارها من نسج الخيال.

واعترف فيصل الأكبر بأنّ دوره في عملية الاغتيال، اقتصر على المراقبة قبل تنفيذ العملية، وأثناء التنفيذ، وكيفية انسحاب مجموعة التنفيذ والمراقبة إلى محلّة الحمراء، مقدّماً وصفاً دقيقاً لمسرح الجريمة ومحيطه جاء مطابقاً بكلّ تفاصيله للواقع، علماً أنّ الأكبر لم يأتِ إلى لبنان إلاّ مرّتين، وتمّ توقيفه في زيارته الأخيرة داخل شقّة سكنية في محلّة عين الرمّانة.
وأدلى الأكبر بأنّ تنظيم «القاعدة» في سوريا أرسل أحد أعضائه خالد طه إلى بيروت قبل نحو شهر من اغتيال الحريري وتحديداً في ليل 15-16 كانون الثاني 2005، ليصطحب الفلسطيني أحمد أبو عدس إلى سوريا، ففعل بأن نقله بسيّارة من نوع «ب.أم.ف.» من منزل ذويه في محلّة الطريق الجديدة.
وهذا ما تطابق بكلّ حذافيره مع شهادة والدة أبو عدس المدعوة نهاد موسى أمام قاضي التحقيق العسكري الأوّل رشيد مزهر، علماً أنّه لا توجد معرفة شخصية بين الأم وفيصل الأكبر. وقد ذكر بيلمار في الفقرة 39 من قراره الاتهامي التوقيت الصحيح لخروج أبو عدس من منزله وهو الساعة السابعة من صباح يوم الأحد في 16 كانون الثاني 2005 وهو ما ذكرته الأم والأكبر أيضاً.

ويروي بيلمار في الفقرة 35 من قراره الاتهامي بأنّ حسين حسن عنيسي وأسد حسن صبرا توليا ما بين 22 كانون الأوّل 2004 و17 كانون الثاني 2005 مسؤولية إيجاد شخص مناسب لاستخدامه في الإعلان زوراً على شريط فيديو عن العملية، زاعماً بأنّهما وجداه في مسجد جامعة بيروت العربية أو «مسجد الحوري»، فهل يعقل ألاّ يكون أحد من المصلّين في هذا المسجد قد شكّ بوجود شخص غريب بينهم خصوصاً أنّ زيارة المسجد ولقاء أبو عدس قد تكرّرت على ما يقول بيلمار طوال 27 يوماً؟ وأين هو شاهده على هذه الواقعة؟ وكيف توصّل إلى أنّ عنيسي تحديداً انتحل اسم «محمّد» لإتمام عملية التجنيد، مع العلم أنّ اسم «محمّد» كانت والدة أبو عدس قد ذكرته للجنة التحقيق في عهد ميليس الذي أورده في الفقرة 170 من تقريره الأوّل الصادر في 20 تشرين الأوّل 2005؟

ولماذا أغفل بيلمار الدور الكبير الذي أدّاه خالد مدحت طه في نقل أبو عدس خصوصاً أنّ زميله القاضي ميليس توقّف ملّياً عند دوره في الفقرة 174 من تقريره الأوّل؟
وقد تفيد الإعادة هنا في التذكير بما قاله ميليس عن خالد طه المذكور:
«هناك شخص لم تتمكّن لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة ولا السلطات اللبنانية من مقابلته حتى الآن يُدعى خالد مدحت طه، وهو زميل متدين آخر، وله أهمية مميزة استناداً إلى سجلات السفر المسنودة إليه والى بعض الصدف غير العادية. السيد طه التقى السيد أبو عدس عندما كانا طالبين في الجامعة العربية حيث كانا يلتقيان عادة في مسجد الجامعة. ووفقاً لسجلات السفر، فان السيد طه غادر عبر مطار بيروت الدولي إلى الإمارات العربية المتحدة في 21 تموز 2003 وعاد إلى بيروت في 17 تشرين الأول 2003. السجل التالي له يظهر انه دخل إلى لبنان آتياً من سوريا براً في 15 كانون الثاني 2005، في اليوم السابق على اختفاء أبو عدس. في اليوم التالي غادر السيد طه لبنان إلى سوريا براً. لا تظهر السجلات مغادرة لبنان قبل 15 كانون الثاني 2005 ما يشير إلى انه دخل سوريا قبل ذلك التاريخ بشكل غير شرعي. إن تحقيقاً أبعد كشف أنّ ثلاثة من عناوين الـ E-MAIL للسيد طه كانت تمر عبر سوريا والرابع عبر لبنان نفسه فيما كان يزعم انه في تركيا. أكثر من ذلك، فان موعد مغادرته إلى سوريا من لبنان ـ في 16 كانون الثاني 2005 ـ هو نفسه موعد اختفاء السيد أبو عدس. أكثر من ذلك، أشارت السلطات اللبنانية في تقريرها إلى انه لم يعتقل أبداً لدخوله غير الشرعي الواضح إلى سوريا قبل 15 كانون الثاني 2005 حتى لدى عودته إلى سوريا في 16 كانون الثاني، وهذا حدث غير عادي، ما يشير إلى أن مغادرته ودخوله في اليوم التالي قد سهّلا من قبل شخص ما. لقد اتصلت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة أخيراً بالسلطات السورية لتزويد اللجنة بمعلومات مفصلة عن خالد طه، خصوصاً سجلات سفره إلى سوريا ومنها».

وخلال التدقيق في ما قاله ميليس عن طه تستوقف المرء العبارات التالية: أنّ طه وأبو عدس كانا طالبين في الجامعة العربية حيث كانا يلتقيان عادة في مسجد الجامعة، وأنّ طه دخل إلى لبنان آتياً من سوريا برّاً في 15 كانون الثاني 2005، في اليوم السابق على اختفاء أبو عدس، وفي اليوم التالي غادر طه لبنان إلى سوريا برّاً، فأين تكمن الحقيقة؟

ولا يخبر بيلمار عن مكان وجود ووقوف «فان الميتسوبيشي كانتر» قبل تحرّكه إلى مسرح الجريمة لملاقاة موكب الحريري، وكلّ ما يزعمه هو أنّه انطلق من «موضع قريب من (سليم جميل) عياش الموجود بين مجلس النوّاب وفندق «السان جورج» باتجاه الفندق المذكور»، فهل يعقل ألاّ يتمكّن التحقيق بعد سنوات من الاغتيال من معرفة مكان شاحنة الموت قبل تنفيذ الجريمة؟ وهل يعقل ألاّ يتمكّن التحقيق من معرفة مكان تخبئة «الميتسوبيشي» بعد شرائها من أحد معارض السيّارات في محلّة البداوي في طرابلس وإنزالها من «البلاطة» التي أقلتها إلى محلّة الدورة، وقد استمرّت هذه العملية واحداً وعشرين يوماً أيّ بين 25 كانون الثاني 2005 و14 شباط 2005؟ وكيف حدّد بيلمار مواقيت اتصالات كثيرة بغضّ النظر عن مدى صحّتها أو عدم حقيقتها، وعجز عن تحديد أيّ شيء يتعلّق بهذه المركبة الآلية والاتصالات التي حصلت بعد اختفائها من الدورة إلى حين ظهورها في محلّة عين المريسة؟ وكيف حصل تجهيزها بالمتفجّرات التي بلغت زنتها 2500 كيلو غراماً تقريباً من مادة الـ« تي.ان.تي»؟ وأين هي صور الأقمار الصناعية الأميركية وغير الأميركية طالما أن التواريخ والمواقيت محددة؟
أسئلة لم يجب عنها بيلمار في قراره الاتهامي الأوّل، الذي استند فقط على الأدلّة الظرفية المتمثّلة بالاتصالات الهاتفية.

السابق
نواف سلام: إعلان الدولة الفلسطينية لا يؤثر على حق عودة اللاجئين
التالي
تراجع في أعداد الوافدين إلى أمسيات صيدا الرمضانية