روايتان عن ثورة درعا وعن “هستيريا الصورة” التي أصابت فلاح سورية المدلل

 لم تكن درعا تشكو من تهميش قياساً على غيرها من المحافظات السورية، على العكس، فهي محافظة «مدللة نسبياً»، سواء بسبب سياسات حزب البعث الداعمة للفلاحين، أم بسبب الرخاء الاقتصادي النسبي العائد إلى عمل قطاع كبير من أبنائها في دول الخليج والمهاجر. وما حصل فيها يقرأ بحسب ما ذهبت إليه السينمائية عزة الحسن «هستيريا الصورة». فالمشاهد العربي أبهرته صور الثورات العربية التي أسرته على مدار الساعة، وعلى غير وعي تقمص شخصية الثوار في مواجهة الاستبداد. تماماً كما أصيب أهل بلدة هندية بالمغص لأن بطل مسلسل مشهور تألم من معدته فتألموا، من غير علة حقيقية…

والإهانة كانت الشرارة التي ولدت الثورة في مجتمع تراكم فيه الغاز المشتعل عبر عقود. فالدلال النسبي للمحافظة لم ينزعها من سياق القمع المنهجي الذي يتعرض له الشعب السوري.

– روايتان عن ثورة درعا:

كانت تهمتي أنني من عائلة« أبا زيد»

أجريت هذا الحوار مع شاب من عائلة «أبا زيد» من مدينة درعا. كان من المقرر أن أعاود الحوار معه لأتابع ما حدث في درعا، لكن ذلك كان صعباً، مثل قصة الشاب الذي روى لي كيف بدأت حركة الاحتجاجات في بانياس، ومن ثم اختفى أيضاً، عرفت منذ يومين أنه معتقل. لا أعرف إن كان الشاب من آل «أبا زيد» قد اعتقل، لكنه اختفى أيضاً.

يقول الشاب وهو في بداية العشرين: «كانت تهمتي هي العائلة، يهينونني ويضربونني ويقولون: «أبا زيد» يا كلب. كنا دخلنا أنا وأخي التوأم إلى السجن في فرع الاستخبارات العسكرية».

أطلب منه أن يروي بداية الأحداث مسلسلة، كنت أريد الوقوف عند بدء حركة الاحتجاجات كما حصل في بانياس تماماً. قال الشاب، وكان حزيناً بطريقة لا تغتفر، وصوته على رغم كلامه المؤثر، كان هادئاً ومبحوحاً:

«في 18/3/2011 عندما ذهب الأهالي إلى عاطف نجيب، بعد أن اعتقل أطفالهم وعذبهم في السجن، طلبوا إطلاق سراح الأطفال. قال لهم عاطف نجيب: «انسوا أولادكم»، وأضاف كلمات بذيئة تناولت النساء.

خرجت الناس من عنده غاضبة. وعرف أهالي درعا بما حصل، واتفقوا في 18 /3 أن يخرجوا للتظاهر من الجامع العمري وجامع آخر. خرجوا من باب الجامع وصرخوا: «حرية حرية والشعب السوري ما بينهان»، وخرجنا كلنا معهم، حينها نزلت 16 طائرة مروحية في الملعب البلدي الجديد «مدينة الأسد الجديدة».

كانت التظاهرة تسير في الوادي، وتم رشهم بالماء عبر سيارات الإطفاء وحصل إطلاق نار وقتل أربعة، منهم محمود جوابرة وحسام عياش.

انتهت هذه الجمعة بلا اعتقالات وبأربعة موتى، والأمن بقي موجوداً بكثافة.

في اليوم الثاني 19/3 وعند الساعة السادسة صباحاً صاح الناس بأسماء القتلى في الجوامع وتجمعت الناس من أجل الجنازة. خرجنا كما يخرجون بجنازة شهيد ورفعنا التابوت على الأكتاف وخرجت أعداد هائلة باتجاه المقبرة ودفنّاهم، وكان الشيخ أحمد الصياصنة الذي أمسك الميكروفون ودعا إلى التهدئة وقال إنهم خلال 48 ساعة سيفرجون عن الأطفال، فصاح شاب: «دم الشهيد برقابكم». فقام الناس وصاحوا بإسقاط عاطف نجيب والمحافظ «ويا عاطف ويا نجيب بدنا نسّيك الحليب»… وخرج الشباب باتجاه الجامع العمري وعند الوادي كان بانتظارنا فيلق من عناصر الأمن ومكافحة الإرهاب وحفظ النظام وبلطجية ورجال أمن. كانت المسافة بيننا 100 متر، والشيخ محمد «أبا زيد» يحاول تهدئتنا. لم نستجب له، بقينا طويلاً واقفين وجاء واحد من أغنياء درعا وأزلام النظام «أيمن الزعبي» فضربه الشباب وبدأ إطلاق القنابل علينا مثل المطر، القنابل المسيلة للدموع، وصار هناك إطلاق رصاص وكان عاطف نجيب والمحافظ موجودين وهربا على دراجة هوائية، نحن انسحبنا باتجاه البلدة (حي الكرك) فأطلقوا علينا القنابل، فأشعلنا الدواليب. كنا مصممين على البقاء، وبقينا حتى الثامنة مساء وصار هناك إطلاق نار كثيف علينا وتفرقنا.

في 20/3 خرج أهل درعا البلد وعاتبوا أهل درعا المدينة لأنهم لم يخرجوا معهم. يومها طلع أهل البلد معنا، أيضاً كانت هناك قنابل وإطلاق رصاص والأمن يحيط بنا من جهتين، وضربنا الأمن بحجارة فانسحب، والناس كسرت مركز لـ «سيريتل»، لم يحرقوا البناء، أحرقوا فقط ممتلكات رامي مخلوف، أخرجوا الأجهزة وأحرقوها، وأصيب اثنان بجراح، كنا نضرب بالحجارة على القصر العدلي، والأمن هو من قام بحرق القصر العدلي، ولم تأت ولا سيارة إطفاء. لقد تعمدوا إحراق المباني، وتجمع عناصر الأمن عند بيت المحافظ وكانت درعا مثل حالة حرب. كان هناك الكثير من الجرحى، احتلوا المستشفى، وأي جريح يدخل يقومون باعتقاله أو إطلاق النار عليه، وكان التبرع بالدم ممنوعاً، هناك شاب اسمه وسام الغول، قام بالتبرع للجرحى فقتله رجال الأمن وهو فلسطيني.

الاثنين 21/ 3 استيقظنا وكانت السرايا محروقة، وفوجئنا بالحواجز العسكرية والمتاريس الرملية، كنا نتحرك في كل مكان حول عناصر الأمن، من كل مكان كنا نخرج وصار هناك اعتصام أمام الجامع العمري، وبنوا الخيام وطالبوا بإطلاق سراح المعتقلين والأطفال وإلغاء المادة الثامنة من الدستور وإطلاق سراح المعتقلات ومحاسبة القتلة. وفي 23/3 كانت المجزرة وكان يوم أربعاء، ولكن قبل ذلك في 22/3 كان الناس يعتصمون وكانت الأمور بخير. ومر نهار التظاهر على خير ولكن بين الثانية عشرة والنصف والواحدة ليلاً 23/3 بدأ إطلاق النار في شكل عنيف وحصل اقتحام الجامع العمري وأطلقوا النار على الناس في الجامع وسقط سبعة شهداء، وقاموا بضرب الخيام، ومزقوا صور الشهداء وكان الشيخ ينادي للمساعدة، ولكن أي إنسان يتحرك كان يتم قتله. اجتمع الشباب فجاء الأمن وأطلق النار علينا، كانوا يطلقون النار ويدوسون على الرقاب، حتى لا يتجرأ أي إنسان ويفتح باب بيته فيطلقون النار عليه مباشرة.

أهل القرى المجاورة سمعوا بما حدث فقرروا إغاثة أهل درعا، وجاء أهل القرى ودخلوا من القرى الشرقية ومن غرب درعا، وعندما اجتمعوا في المحطة قرب دوار البريد القريب من فرع حزب البعث سمحوا لهم بالدخول بسهولة بلا توقف، وبدأ إطلاق النار، قيل إن هناك 70 قتيلاً، لكن المؤكد أن هناك 200 وهناك جثث لم يتم التعرف إليها. بقينا نذهب هناك لأسابيع ونرى الأحذية الفارغة ونرى الدماء. لقد حصلت باختصار مذبحة».

الشاب من عائلة «أبا زيد» الذي لم يتوقف عن الكلام وكأن قيحاً يخرج من قلبه، توقف قليلاً لدقائق. كان صمته قاسياً، وأنا جعلت رأسي مدفوناً في دفتري حتى لا أنظر إليه، همهمت، فتابع: «الخميس 24/ 3 كانت الناس تحصي الشهداء وتلملم جراحها، وكان الجامع محتلاً والكل في حالة صدمة وذهول. جاء من «الحراك» حوالى 100 ألف من البشر العاريي الصدور والحفاة فأطلق رجال الأمن والجيش عليهم النار، وهرب المتظاهرون إلى البيوت ففتح الناس البيوت وخبّأوا الناس، واكتشفنا أن هناك أعدداً كبيرة من المفقودين، وحتى الآن لم نعرف إن كانوا ميتين أو معتقلين. الأهالي على رغم الموت والاعتقالات كانوا شجعاناً، أبي قال: «أنا بقدمكون كلكم شهداء».

كان الظلم لا يحتمل. الناس التي قتلت لم تكن أغلى منا، كانوا يعيشون بيننا.

خطبت بثينة شعبان، واستبشرت الناس خيراً، وجاء رجال وحمّلوا الناس صور الرئيس تأييداً له، وكان هؤلاء من الأمن والبعثيين الحزبيين الذين قدموا في باصات ليظهروا أنهم يقومون بتأييد الرئيس. ازداد استفزاز الناس الذين يشيّعون أولادهم عبر هذه الأعراس التي قاموا بها إلى جانب الجنازات.

في الجامع عندما انسحب الأمن، كان كل شيء مخرّباً وكانت هناك كتابات فارسية، أنا رأيت عناصر أمن كانت لهم لحى مشذبة وغريبة عن رجال الأمن الذين نعرفهم. قيل في ما بعد إن أحد القناصة من الذين قبض عليهم لم يكن يتكلم العربية. في ذلك اليوم في 24 /3 قالت الناس للمرة الأولى: الشعب يريد إسقاط النظام.

25/ 3 تجمعت الناس عند الجامع العمري بأعداد هائلة وكان هناك دفن للشهداء. كانت هناك حشود هائلة، أكثر من مئتي ألف نسمة. وصمم الناس على الخروج والتجمع في ساحة المحافظ، وكان لدينا تعهد ألا يتعرض لنا أحد من الأمن أو الجيش، وبثينة شعبان قالت إنه لن يتم إطلاق نار على المتظاهرين، فتجمعت الناس بكثافة وهتفت بصوت واحد: «الشعب يريد إسقاط النظام». وعندها ونحن نتظاهر وصلنا خبر مجزرة الصنمين حيث سقط أكثر من 20 قتيلاً، وعندما تأكدنا من الخبر، جنّ جنون الناس، فقفزت الناس على صور الرئيس ومزقتها وهجمت على تمثال الرئيس وضربت التمثال وهزّته بعنف، فصار هناك إطلاق نار كثيف من بيت المحافظ. كان هناك قناصة وكانت النساء حينها تقف إلى جانب الرجال، ومع إطلاق النار الكثيف لم يتحركوا، بقوا حتى أسقطوا التمثال ومن ثم أحرقوه. وبقي إطلاق النار ساعتين، وهجم الناس على بيت المحافظ لإنزال القناصة الذين يقتلون المتظاهرين، ومن ثم أحرقوا بيت المحافظ، وبقي يحترق لساعات. بعد أن انتهى كل ذلك عرف الناس أن العقاب سيكون قاسياً، ولكن على رغم ذلك بقوا هناك وأحرقوا إطارات أمام بيت المحافظ.

31/ 3 يوم الخميس: تحدثت القيادة في النظام مع أهل درعا ليلتقوا بالرئيس وخرج 25 شخصاً من أجل هذه المهمة، وكان من اختارهم «هشام بخيتار» خمسة عشر شخصاً، والناس اختارت عشرة. وقبل أن يخرجوا للقاء الرئيس قالت النسوة للعشرة الذين اختاروهم: «برقبتكم دم وأنتم تمثلونا». من بين المطالب التي وضعها الرجال الخمسة عشر المتعاونون مع الأمن كان طلب إعادة المنقبات، أهل درعا لم يطلبوا ذلك، ولاحقاً أُزيح هذا المطلب. قابلوا الرئيس ورجعوا في العصر، سمعنا أن العشرة الذين اختارهم الناس دخلوا على الرئيس بكرامة والدكتور هشام محاميد وهو أخو شهيد قتل في الأحداث اسمه علي المحاميد، عندما دخل الرئيس، دق على صدره وقال له: نحن من مزقنا صورك وأسقطنا التمثال وأنتم قتلتم أخي. الرئيس، كما عرفنا، كان ديبلوماسياً ومتحدثاً لبقاً ومتعاطفاً وقال لهم: أي شيء تريدونه نحن جاهزون، أخذوا معهم الصور والـ «سي دي» والأفلام وجعلوه يرى كل شيء، فقال لهم إنه لم يكن يعرف بأي شيء، ووعد الرئيس بانسحاب الأمن والجيش وقال إنه سيعمل ما يريدونه. وفعلاً انسحب الجيش وخرج المعتقلون وخرج الأطفال أيضاً.

شعرنا أن هذا انتصار. في 1/4 جاء كل أهالي القرى إلى درعا وجاء الناس من دمشق، وخرجنا من البلد باتجاه المحطة ولا يوجد رجل أمن واحد. كنا سبعمئة ألف إنسان تقريباً، أعداد هائلة، وكان النهار حاراً، ومع ذلك بقي الناس في الساحات، في ثلاث ساحات والكل يردد: «الشعب يريد إسقاط النظام»، والناس بدأت تحمي المنشآت الحكومية حتى لا يحدث تخريب. لم يكن هناك حتى شرطة مرور، كانت الناس تلم الأوساخ وتنظف الطرق، وتحمي البلدة. وأعلن العصيان المدني، بقينا أسبوعين نتظاهر ولا يوجد عناصر أمن، بعد ذلك وكانت «جمعة الصمود»، خرج الناس من الجامع العمري باتجاه المحطة، وحصل إطلاق نار، ومات الكثير من الناس، هناك قصة لموسى جمال «أبا زيد»، الذي أصيب برجله وأسعفه الناس إلى الجامع العمري حيث صنع الناس مستشفى هناك، الناس كلها كانت تساعد بعضها بعضاً، جمال أصيب برصاصة في رجله لكنه رفض ترك التظاهرات وكان يبدو أنه استنشق غازات مسيلة للدموع وأظن أنها كانت سامة، فأسعف مرة ثانية إلى مستشفى الجامع، عاتبه الأطباء لأن وضعه لم يعد يحتمل، لكنه رفض البقاء بعيداً من الناس، وفي التظاهرة أطلق قناص الرصاص على رقبته فمات.

قتل 20 شخصاً، وكان الأمن طوال الوقت يقتل الناس أثناء مرورهم في الطرق والشوارع. أحد أصدقائي قتل على أيديهم وهم يطلقون النار عشوائياً، كانوا متوحشين، هناك قصة محمد أحمد الراضي وهو طالب جامعي يدرس في قسم المكتبات من مواليد 1986، كان في بيت خطيبته، نزل من البيت، وكان بيتهم عند «بنك الدم» وهو الشارع الذي شهد المجزرة، رأى الناس المصابة في الشارع ونزل بهدف الإسعاف والتصوير، كان في يده حجر للدفاع عن نفسه، أصيب برصاصة في بطنه، وسقط ولم يستطع الناس إنقاذه فوراً، سبقهم الأمن إليه، ومثّلوا بجثته، كان دمه مفصولاً عن رأسه. عندما انفضّ الأمن عنه، جاء الناس ليسحبوه ويسعفوه لكن الأوان كان قد فات، وقع دماغه من رأسه أمامهم.

في 25/4 دخلوا درعا، بداية الاجتياح في الليل، كانت الناس استشعرت الخطر، وكانت لدينا إشاعات تقول إن الأمن سيدخل، والناس كانت تقوم بإنشاء الحواجز وتنظم لجاناً لحماية المدينة، لم نكن نعرف أنهم سيدخلون إلى درعا بالدبابات، لكن الدبابات دخلت وجه الصبح، كانت هناك 8 دبابات، وتم قطع الكهرباء وخطوط الهاتف الأرضي والنقال، وبدأ إطلاق النار في شكل كثيف لمدة 17 ساعة، وتم تخريب مراكز ضخ المياه التي تأتي من مزاريب، وضربت خزانات المياه بالرصاص وكذلك الخزانات الكبيرة أيضاً، ثم دخلت الدبابات الحارات، كان في درعا حينها 75 ألف عسكري من أصل 200 ألف عسكري وهو عدد أفراد الجيش السوري، قاموا باقتحام درعا برفقة مخبرين من درعا عرفنا في ما بعد أسماء بعضهم. كان هذا في درعا المحطة، ودرعا البلد لم يكونوا قد دخلوها بعد، فتشوا واقتحموا البيوت واعتقلوا الشباب كلهم بين 15 والـ 40 سنة، وكل أصحاب البيوت الذين رفضوا وضع قناصة على أسطح منازلهم قاموا باعتقالهم، اعتقلوا كثيرين، ربما حوالى عشرة آلاف وكان هناك المزيد من الأسماء المطلوبة وصارت القائمة تتزايد، والتهمة كانت التظاهر والهتافات.

بيوت درعا خُرقت بالرصاص، وغالبية البيوت رشت بالداخل والخارج بالرصاص، ثم خربوها في شكل وحشي فظيع. بعد 8 أيام من دخول البلد، وهناك مناطق رحل أهلها عنها وكان القناصة ينتشرون على أسطح البيوت ويطلقون النار على أي كائن يتحرك، وأثناء هذا الحصار صار من الصعب انتشال الجثث، فتحللت… كان هناك براد في المنشية، وفي ساحة النبابنتة برادان مملوءان بالجثث، قام الأهل بتخبئة البرادين والجثث من رجال الأمن، لكن الأمن كان يسرق الجثث ولا يعود بها، والأهل – حتى لا يسرق الأمن الجثث – حملوا سلاحاً وحموا البرادين، لكنهم لم يطلقوا النار أبداً، لقد حموا قتلاهم فقط. انسحب الأمن، وبعد 4 ساعات رجعت الدبابات وبدأوا بقصف البيوت وأطلقوا النار على البيوت المحيطة بالبرادات».

يتوقف هنا حديث الشاب. يخرج مع أصدقائه بسبب طارئ أمني، على أمل أن ألتقيه مرة أخرى، ليروي لي ما حصل بعد حصار المدينة وكيف عاش الناس الحصار. لكن الشاب لم يعد، أسأل عنه، فأعرف أنه مريض، وأنه منذ خروجه يعاني التهابات نتيجة التعذيب الذي تعرض له أثناء اعتقاله.

رصاصة في صدر شاب اشعلت الثورة
ياسر أبو هلالة
لم يكن يخطر ببال الطبيبة عائشة المسالمة أنها تمثل جسراً تاريخياً بين الثورة المصرية والثورة السورية. وعلى خلاف السوريين الذين علمتهم عقود من حكم البعث القدرة على التمثيل واصطناع الولاء طلباً للسلامة، وأقله الحذر الشديد، أعمتها فرحة سقوط حسني مبارك واتصلت يوم 11 شباط (فبراير) من درعا مهنئة صديقة لها من بلدة خربة غزالة متمنية «العقبى عندنا». ولم يخطر على بالها أن آذان عاطف نجيب مدير الأمن السياسي في درعا وأحد خؤولة الرئيس بشار الأسد واعية لتلك اللحظات المفصلية، ولم تسه عن شاردة ولا واردة.

مع أن اصطناع الولاء هو ما خرجت به ليزا وادين في أطروحتها «السيطرة الغامضة» فعلاقة الناس بالدولة تقوم على أساس التظاهر «كما لو أنها». وكان حرياً بالطبيبة أن تقول وفق رواية التلفزيون السوري أن مبارك سقط لأنه «نظام كامب ديفيد»، وأن قائدنا باق إلى الأبد لأننا «منحبك» وفق اللوحات الدعائية الضخمة، ولأنه على قوله قريب من «معتقدات الشعب». من الواضح أن «السيطرة الغامضة» أخذت بالتفكك لمصلحة «الثورة الغامضة» التي فاجأت الجميع.

اعتقلت الطبيبة وصديقتها. لم يخطر على بال نجيب أنه بذلك يدمر ما أنجزته عقود من سنوات البعث في حوران. فالطبيبة تمثل جيلاً من الفلاحين جنى مكاسب نظام قل أن تجد نظيراً له في العالم العربي في النهوض بالفلاحين وتمكينهم سياسياً واقتصادياً. وهو ما أكده من قابلتهم من شباب درعا وحوران. نقل لي واحد من الشباب الثوار عن والده أن أهل حوران الفلاحين، قبل البعث، كانوا يدخلون دمشق على استحياء من أهل المدينة المترفعين عنهم.

لم يتوقف تمكين أهل سهل حوران الخصيب على دعم الفلاحة اقتصادياً ودعم الحضور النقابي لاتحادات الفلاحين سياسياً، بل تعداه إلى حضور لافت في الدولة، وفي الحلقة السياسية والأمنية والعسكرية الضيقة. ربما ساعد في ذلك أنها لم تكن من المناطق المتمردة في أيام المواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين في عقد الثمانينات. وإن كان لها مساهمتها المحدودة. ومن الوجوه السياسية لدرعا رئيس الوزراء الراحل محمود الزعبي، ونائب الرئيس فاروق الشرع، ومن رموزها الأمنية رجل الاستخبارات القوي في لبنان رستم غزالة، ومدير أمن دمشق يعرب الشرع وغيرهما.

ومن الواضح أن تقديم أبناء حوران كان محاولة لنفي الصبغة الطائفية للنظام، وتقديمه بصورة طبقية. وفي إطار الفلاحين يندرج أبناء حوران مع العلويين في مواجهة الطبقة المدنية البرجوازية، خصوصاً أن المدن شكلت قلب المواجهة مع النظام في الثمانينات سواء في حلب أم دمشق أم حماة، والانقلابات في سورية لم تشذ عن ظاهرة عربية؛ انقلاب ضباط الريف على أبناء المدن.

رصد الأمن السياسي تمرد الطبيبة عائشة المسالمة وصديقتها العفوي، تماماً كما رصد ملايين المشاهدين تمرد سميرة المسالمة رئيسة تحرير صجفية»تشرين» على الهواء في حديثها على قناة «الجزيرة» عندما قالت «إن هناك خرقاً للتعليمات المتعلقة بعدم إطلاق النار، ويجب محاسبة الذين يقومون بإطلاق النار حتى لو كانوا من الأمن وتبيان الأسباب التي دفعتهم إلى مخالفة التعليمات القاضية بعدم إطلاق النار». أقيلت من منصبها وهي أول سورية تنجح في الوصول إلى موقع رئاسة التحرير. وكأن من يمكنهم النظام، فلاحة أو امرأة هم من ينقلبون عليه.

لم تكن درعا تشكو من تهميش قياساً على غيرها من المحافظات السورية، على العكس، فهي محافظة «مدللة نسبياً»، سواء بسبب سياسات حزب البعث الداعمة للفلاحين، أم بسبب الرخاء الاقتصادي النسبي العائد إلى عمل قطاع كبير من أبنائها في دول الخليج والمهاجر. وما حصل فيها يقرأ بحسب ما ذهبت إليه السينمائية عزة الحسن «هستيريا الصورة». فالمشاهد العربي أبهرته صور الثورات العربية التي أسرته على مدار الساعة، وعلى غير وعي تقمص شخصية الثوار في مواجهة الاستبداد. تماماً كما أصيب أهل بلدة هندية بالمغص لأن بطل مسلسل مشهور تألم من معدته فتألموا، من غير علة حقيقية.

اعتقلت الطبية المسالمة وأهينت هي وصديقتها، لكن ذلك لم يكن سلوكاً استثنائياً لعاطف نجيب مدير الأمن السياسي في درعا المشهور بفساده وقسوته. لم يطل اعتقالها، وأفرج عنها بعد تدخل أقاربها الذين يدركون جسامة الذنب الذي اقترفته في مساسها بشخص الرئيس. من لم يقبل تلك الإهانة، تأثراً بـ «هيستيريا الصورة»، هم الفتيان والأطفال من أقاربها. فخرجوا من المدرسة في تظاهرة عفوية وكتبوا على الجدران ما شاهدوه وسمعوه على مدار الساعة «الشعب يريد إسقاط النظام». رصدت آذان عاطف نجيب ذلك، ولم تشفع لهم طفولتهم كما لم تشفع لقريبتهم أنوثتها.

تقبل الأهالي الاعتقال، وصبروا أياماً لعل عاطف نجيب يكتفي بتأديبهم، لا سيما أنهم تعرضوا لتعذيب وحشي بالكهرباء وخلع الأظافر وغير ذلك من وسائل متبعة في الأمن السوري. توجه الشيخ محمد عبد العزيز ابازيد إلى عاطف نجيب متوسطاً للأطفال، فتلقى رداً مهيناً «أنسوا أولادكم « وأضاف عبارات بذيئة بحق النساء! لم تكن تلك العبارات الفاحشة، كما تعذيب النساء والأطفال سلوكاً جديداً على عاطف نجيب. لم تتقبل الشخصية العشائرية تلك الإهانة، وعاد إلى قومه غاضباً.

يقول محدثي وهو ممن شاركوا في أول تظاهرة في درعا أن الإهانة كانت الشرارة التي ولدت الثورة في مجتمع تراكم فيه الغاز المشتعل عبر عقود. فالدلال النسبي للمحافظة لم ينزعها من سياق القمع المنهجي الذي يتعرض له الشعب السوري. الأمن حاضر في كل شيء لا تستطيع أن تفتح مصلحة بسيطة من دون موافقة ودفع رشى، رخصة حفر البئر وصلت أكلافها الى مليون ونصف مليون ليرة سورية. ناهيك عن السلوك الطائفي الذي بدأ يطفو على السطح من خلال منع النقاب الذي بدا وكأنه احتجاج ناعم من النساء على ما اعتبر هيمنة طائفية.

لم يكن سقف التظاهرة يتعدى الإفراج عن الأطفال وإقالة عاطف نجيب مدير الأمن السياسي والمحافظ فيصل كلثوم، وهما من أسوأ ما ورث الرئيس عن والده، فكلاهما شارك في أحداث الثمانينات، وفيصل كلثوم كان من قلة حصلت على مسدس «شرف البعث» الذي قلده الأسد الوالد لمن أبلوا في مجزرة حماة التي ذهب ضحيتها ما لا يقل عن عشرين ألفاً من المدنيين. ذلك الإرث الأمني الرهيب لم يكن ليرعب فتية درعا في يوم الجمعة في 18/3/2011، فعقود القمع التي نشأ فيها الجيل الجديد أورثته خبرة في التعامل مع أجهزة الأمن.

أدرك الشباب الذين تداعوا عفواً، ولم يكن يربطهم تنظيم، أن الأمن سيركز على الجامع العمري قلب المدينة، فاختاروا تضليلاً له انطلاق التظاهرة من جامع حمزة والعباس متوجهين إلى الجامع العمري. يؤكد محدثي رداً على أسئلتي أنه لم يكن ثمة تخطيط ولا تنظيم سابق، وإن ما حصل كان ابن تلك اللحظة. سألته عن علاقات وخلفيات الشباب، كان بعضهم قد اعتقل أخوة لهم بتهم السلفية. لكن الحضور السلفي لم يكن واضحاً في الشعارات الأولى التي وضعوها «الله أكبر… الله سورية حرية وبس». وهي الشعارات ذاتها التي سبق تردادها بيومين في الجامع الأموي في دمشق في تظاهرة محدودة. وفي تواضع يدرك محدودية القدرات ويضع سقفاً للمطالب رفع شعار «الشعب يريد إسقاط المحافظ».

لا يبدو أن الجهات الأمنية وضعت في استراتيجيتها إطلاق الرصاص على المتظاهرين، فالمسيرة خضعت لمراقبة وحصار وتهديد، لكن الطابع الدموي الذي ترسخ في عقود غلب التطبع المصطنع لمواجهة رياح الربيع العربي. أحد أفراد دوريات الأمن خاطب المتظاهرين «بدكم حرية يا كلاب» فخرج بعض المتظاهرين عن سلميتهم وحطموا السيارة التي انسحبت. الطابع الدموي احتوي قليلاً. وفي «هيستريا الصورة» يتقدم المتظاهر حسام عياش نحو الشاهرين بنادق الكلاشنيكوف الروسية، ويفتح صدره متحدياً، وكأنه يعيد مشهداً شهيراً جرى في غضون الثورة المصرية، وقال: «إذا كنت رجلاً اطلق الرصاص». التزم العسكري، على ما يبدو بأوامر عدم الإطلاق، لكن ضابط صف في الأمن غلبه طبعه، فسحب مسدسه وأطلق الرصاص في رأس حسام. استنفر الأمن ونزلت في الملعب البلدي 12 طائرة مروحية تقل قوات أمنية خاصة.

لم يكن ضابط الصف يدري أنه يصيب النظام في مقتل. ومن لحظتها لم يتوقف نزف الدماء في سورية. طغى الطابع الأمني الدموي وقتل بعدها متظاهر ثان هو محمود الجوابرة وعاد المتظاهرون السلميون بخمس جثث. وهو ما عنى خمس تظاهرات أخرى في اليوم التالي. يصعب الجزم باستراتيجية النظام في تلك اللحظة. هل كان إطلاق الرصاص الحي ضمن خطة أم هو طابع دموي تجلى على نحو عفوي؟

يغلب على الشباب صفة المحافظة والتدين، وتلك الصفة نوع من معارضة النظام الذي ظل حريصاً على محاربة مظاهر التدين، ويحمل الشباب ذكريات مريرة في أيام خدمتهم العسكرية من استهداف للرموز الدينية وتضييق على ممارسة الشعائر، في جو طائفي مكبوت. وفي أنظمة استبدادية لا يبقى مجال عام للتواصل والتجمع غير دور العبادة، وهذا ما شهدته كثير من دول أوروبا الشرقية، هنا برزت شخصية الشيخ أحمد الصياصنة المبعد عن الخطابة والإمامة بسبب «استقامته وجرأته» على حد وصف محدثي. حاول الشيخ الصياصنة في اليوم التالي في 19/3 استيعاب الشباب والتوسط لتحقيق المطالب، واضطرت السلطات الأمنية التي حاربته للقبول به وسيطاً مع المتظاهرين. ولكن الوساطة لم تجد، ولم تلب المطالب، فتصاعد هتاف المتظاهرين «ثورة ثورة…» وعلا شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» في وجه زخات الرصاص. والشيخ الوسيط قتل ابنه لاحقاً.

من سوء حظ النظام مع أهالي درعا أن أحد شبابها؛ أبو الحسن أبا زيد، كان قد أسس شبكة شام الإخبارية على الإنترنت. وهو من جيل المهجرين خارج سورية، فوالده خرج على خلفية المواجهة مع الإخوان المسلمين في الثمانينات وعاشت العائلة في اليمن. عندما أسس الموقع قبل الأحداث بأسبوعين لم يكن يأمل أن تقوم ثورة في سورية وفي بلدته تحديداً. لعبت العلاقات التقنية المعقدة جنباً إلى جنب مع العلاقات القرابية، ثم توسعت الشبكة لتشمل سورية كلها، وينخرط فيها مسيحيون وعلويون.

دمر النظام البنى الحديثة للمجتمع من نقابات وأحزاب وجمعيات، ولم يبق غير الروابط القرابية والأهلية، وهي أكثر فاعلية وحماسة من الأولى. فقيم النخوة والثأر والتضامن لا تقاس بقيم الواجب والالتزام المهني والسياسي والفكري. تداعت عشائر درعا المدينة أولاً، ثم انضمت إليها القرى المجاورة. ورد النظام بدموية استدرجت ردوداً غير متوقعه وصلت إلى درجة إحراق تمثال الرئيس الراحل حافظ الأسد بعدما عرف بمجزرة القرى في23/3/2011 إذ أطلق الرصاص الحي على من توافدوا تضامناً من القرى المجاورة. في الأثناء حاول النظام الاستفادة من روابط الدم مع رجالات النظام، فأوفد رستم غزالة في اليوم التالي للتظاهرة الأولى معزياً ومفاوضاً، وبعدها بيومين أرسل فاروق الشرع. وظل طيلة الأحداث يلجأ الى الضباط والمسؤولين من أبناء حوران للتوسط والتهدئة.

لا القمع الدموي خوّف الناس ولا الوساطات والترضيات أغرتهم. في الجمعة التالية في 25/3/2011 رد متظاهرو درعا على زيادات الرواتب التي أعلنت عنها مستشارة الرئيس بثينة شعبان بشعارات «يا بثينة يا شعبان شعب درعا مش جوعان»، و «يا بشار اسماع اسماع دم الشهدا ما بينباع». وبعدها انضمت المحافظات السورية تباعاً الى الثورة، وهو ما لم يكن هدف المحتجين في البداية، فما جعل سقوط النظام هدفاً هو حماقات النظام الأمني الذي أخطأ في البداية ولا يزال يخطئ ، وعلى ما يبدو فإن «هستيريا الصورة» تأخذ الشعوب كما تأخذ الأجهزة الأمنية. فالأخطاء التي وقع فيها جهازا الأمن في تونس ومصر كررها جهاز الأمن في سورية ببشاعة لم ترعب الناس الذين عاشوا في رعب عقوداً. لم يحم جهاز الأمن الدولـة بل دمر إنجازاتها ومكتسباتها على قلتها.

السابق
سوريا تنزف
التالي
تركيا أمام التحدي الأصعب لاستراتيجيتها