المطعم و”الديليفيري” يخترقان “لمّة” الإفطارات البيتية

مع أول ايام آب حلّ الشهر الكريم هذا العام ضيفا على اللبنانيين عموما والمسلمين منهم خصوصا، فجمع الى لهب الطقس لهب الاسعار الذي بات يلازمه الى حد انه اصبح أحد مؤشراته. وعلى الرغم من مظاهر الحداثة والعصرنة التي اجتاحت كل المناسبات، وقضت على معانيها الرمزية ودلالاتها، فان شهر الصوم لا يزال يحافظ في بعض المناطق اللبنانية على بهجته التي تظهر معالمها من خلال الزينة ولافتات الترحيب والفوانيس التي عمد البعض الى تعليقها علّها تنير ايامه بالبركة. اما طقوسه فتغيرت وتبدلت ولعل في جمعات الاهالي او السهرات التي باتت في معظمها تقتصر على افراد الاسرة الواحدة او تحولت الى المطاعم حيث يقدم "منيو" خاص لولائم يستعاض بها عن موائد الامهات. ويبقى ان لهذا الضيف الكريم خصوصيته التي تفرض نفسها متحدية كل وجوه التمدن والعصرنة.

في احد احياء العاصمة تجلس الحاجة زينب مع جارتها امام باحة منزلها وتتبادلان الاحاديث حول تحضيرات رمضان. "رزق الله كيف كنا نجتمع كل العيلة ويجو ولادي كلن، كنا نجتمع عيلتين وثلاثة وكانت المائدة مبحبحة مش متل اليوم بالتقطير منشتري بالحبة لولا شوي". وتستطرد الحاجة "كلو هين لو بعد في الفة بين الناس كان ما حدا يقبل يفطر لحالو اليوم بالكاد العيلة عم تجتمع".

"رمضان ايام زمان غير رمضان اليوم" هذا الشيء الوحيد المؤكد الذي يجمع عليه اللبنانيون. تروي الحاجة زينب كيف كانت البيوت لا سيما النسوة، كونهن المسؤولات عن تدبير الشؤون، كيف كن يباشرن عزالة" البيوت، ويعطرنها بالبخور والمسك التي تضفي لمسة خير "ومش مثل اليوم معطر الجو". الورش كانت تقوم ولا تقعد اذ ان لاستقبال الضيف اصوله وادبياته. فتغيير الشراشف وتنظيف الستائر ضروري، خاصة ان منزل العائلة يستقبل الاولاد والاحفاد طيلة الشهر. بعد قليل تنادي الحاجة ابنتها التي تأتي وبيدها ورقة بيضاء وقلم قبل ان تجلس الى جانب امها لتدون "ليستة طويلة عريضة" من لوازم المأدبة الرمضانية بعد ما تفقدت ما ينقصها وما هو موجود "معليه منجبلنا كم كيلو ما بيروحوا ضيعان".على رأس القائمة تأتي اللحوم والدجاج والاسماك، وهنا تتدخل احدى الجارات لتبدي نصيحتها "اللي ما بتتقدر بثمن" في زمن الغلاء هذا فـ"مع كل 2 كيلو كيلو مجاناً" في اشارة الى عرض سار في احد المحال التجارية، الذي يأتي موقع اصغاء لدى الحاجة التي ستسارع الى قصده.

[الفتوش.. معضلة
على الرغم من اجتياح التغيير لمختلف معالم رمضان، إلا ان الثابت الوحيد لا يزال المائدة الرمضانية، التي لا تزال تحافظ على مكوناتها وأطباقها الرئيسة التقليدية. تلك المائدة التي تتصدرها الشوربة والفتوش الممهدان الأساسيان للطبق الرئيسي. ذلك الطبق الذي غالبا ما يحتوي على لحم او دجاج او سمك وسواها من الوجبات الدسمة قبل ان تنتهي القيلولة بحلويات لا بد منها بعد يوم صوم طويل. وتكمن اهمية المائدة في معانيها ورمزيتها وهي الاهم اذ تجمع أفراد العائلات اللبنانية ساعة الإفطار، فـ"كلّما ازداد عدد الصائمين حولها كان الإفطار أشهى وأكثر بركة" ولا ننسى عادة "السكبة" قبل موعد الإفطار والتي تتمثل بتبادل أطباق الطعام فيما بين الجارات. فأين نحن من تلك المائدة اليوم وهل لا تزال متوافرة في جميع المنازل؟

في مواجهة الأوضاع المعيشية الصعبة يكد اللبناني ويشقى للصمود في وجه "غول" الغلاء وتأمين أقله "لقمة العيش" وصحن الفتوش الذي يشكل الطبق الملك في شهر الصوم. قبل ان تركن رولا سيارتها امام احد محال الخضر، تقف للحظات تتأمل قائمة الاسعار الموضوعة على كل صنف "شو هيدا الاسعار ما بتتصدق اذا ما بلش رمضان وهيك كيف ليبدا" فتقرر عندها قصد احد الاسواق حيث كل شيء "رخيص وكويس".

مفارقات كثيرة تكمن في هذا البلد الذي يعبث به الفساد وتغيب عنه الرقابة. من منطقة الى اخرى، تختلف الاسعار بشكل ملحوظ وفارق كبير وبينما تبقى محمولة وطبيعية في بعضها ترتفع وتجن في الأخرى. ابو رامي البالغ من العمر ما يقارب الستين، يقف على جانب الطريق في منطقة السفارة الكويتية على ابواب صبرا، وفي يده بضع اكياس سوداء اضافة الى اخرى على الارض، ينتظر احدى سيارات الأجرة. "انا بجي من الشويفات لأتمون الخضرة ففارق الاسعار كبير، اتمون الي ولولادي خضرة الاسبوع، بتفرق الف والفين بالغرض". ابو رامي ليس الوحيد الذي يلجأ الى هذه الاسواق الشعبية التي تعج بكافة انواع الخضر والمواد الاستهلاكية، اذ تباع بأسعار بخسة عكس المحال، رغم ان المصدر نفسه والبضاعة نفسها، وهنا يكمن السؤال اين الرقابة على تلك البضاعة واسعارها، ولم لا يتدخل المعنيون لمراقبة الاسعار ووضع حد او سقف معين لها؟

[.. والأهم التحلاية
استبق المعلم "ابو يوسف" الضيف المقبل عليه وحضّر له العدة وحمل إبريق "الجلاب" وقد كتب عليه "حلو يا جلاب". اعتاد ابو يوسف ان يجوب الكورنيش البحري مع عصائره حينا وقهوته حينا آخر، حسب الموسم والوقت، اذ ان "لكل مناسبة شرابها" والآن جاء دور الجلاب وقمر الدين. "بتعرفي العالم بتطفش بعد الافطار وليس الكل بامكانهم زيارة المطاعم فياتون ليتمشوا هنا لآخر الليل وأكيد بعد الصوم ما في أحلى من العصير وشي يقويهن". ابو يوسف ليس البائع الوحيد الذي ينتظر قدوم الشهر الفضيل ويعول عليه في زيادة مبيعه وكسب الرزق، اذ لحسن حظ اللبناني انه لا تزال هناك فسحة من الفضاء المجاني من دون ان يضطر الى دفع ثمن الدخول اليها بألف غصة. الى جانب بائعي العصائر تزدحم الكورنيشات بعربات الحلوى التي تحتمل وجودها خارج التبريد. فبعد نهار صوم طويل، تبدأ التحلاية بقرص تمر وتنتهي بأصناف شتى من الحلويات التي تمدّ الصائم بما يلزم من الوحدات الحرارية تمكنه من التعويض عمّا فاته والصمود لاستقبال يوم صوم آخر. وهنا القائمة تطول مما طاب ولذ من حلويات، ولكل منطقة صنفها المميز. فمن السنيورة في صيدا الى حلاوة الجبن الطرابلسية تبرز اصناف اخرى من الكنافة وزنود الست والمفروكة والقطايف والمعمول، ليبقى الكلاج الحاضر الرئيس والمفضل عند الغالبية.

[.. زحمة وحر
يحلّ رمضان هذه السنة في اكثر اشهرها حرارة، واذا كان الصائمون راضين بحكم ربهم وتحمل "الشوبات" لتحقيق "زيادة في الأجر "كما يقال، فانهم لا يتوانون عن ابداء امتعاضهم من حكم مسؤوليهم الذين لا يلتفتون اليهم ويتطلعون لاحتياجاتهم. "ما بيكفي انو حريق والاسعار نار، كمان ما في كهربا منين واللا منين بدنا نلاقيها". فمشكلة انقطاع التيار الكهربائي قد تكون محتملة في فصل الشتاء، حيث لا حاجة الى التهوئة والتبريد، اما صيفا وفي آب تحديدا فهنا الكارثة. تخزين المواد في البراد الذي كانت تعتمده ربات المنازل تحسبا لارتفاع الاسعار لم تعد تتجرأ على فعله اليوم خوفا من فسادها "بتصدقي كبيت نص اللحومات بتظل الكهربا تروح وتجي مش ناقصنا الا نتسمم بعد". مشكلة انقطاع التيار المزمنة والمتزايدة، كانت سببا رئيسا لدى كثيرين من السياح الذين يشكون من تلك الازمة، وهم غير معتادين عليها في بلدانهم، يضاف اليها زحمة السير التي لا تخف ليلا او نهارا لا سيما مع موجة الحفريات التي تعم البلد وتشل بعض اجزائه، فأي سياحة واي موسم سياحي يعوّل عليه مع ارقام غير مشجعة صدرت عن الجهات المعنية؟ بعيدا من العاصمة، وتحديدا في مناطق بحمدون وعاليه حيث تنشط المطاعم واصحابها في تجهيزها بمتطلبات الشهر الفضيل من "قعدات" وخيم وغيرها عل الشهر الفضيل يكرم عليهم ويكون الآتي "اكرم".

[.. وخيم رمضان
غالبا ما يبدأ نهار الصائم بعد افطاره، اذ لا يقوى على القيام بأي مشروع خلال النهار، ويضطر الى ملازمة منزله تقطيعا للوقت. وهنا يتبدل نهار الصائم ليلا وليله نهارا. ويتحسر الكثيرون لا سيما كبار السن منهم على زمن كانت سهرات رمضان فيه من اجمل سهرات العمر، مع ما تجمعه من عائلات حول شاشات التلفاز ويتبادلون الاهازيج او حتى يقصدون احدى الاماكن العامة والحدائق مع شوية "زهبة" ونفس ارجيلة". اليوم بات لكل مشروعه، فبينما يتجه الكثيرون الى احدى حلقات الذكر والصلوات التي تقام في هذه المناسبة، يتجه الشباب غالباً الى المقاهي التي تتنافس فيما بينها لتقديم شتى وسائل الترفيه والراحة لجذب الناس اليها، فيجدون في الخيم المنتشرة فرصة لقضاء وقت ممتع ومسلّ. وهنا يتحدث صاحب احدى تلك الخيم عن اضطراره كل سنة الى ابتكار ديكور جديد مميز كي يتمكن من استقطاب الزبائن في ظل كثرة انتشار الخيم، وهم الذين يعولون على هذا الموسم الذي يتزامن هذا السنة وقدوم السياح الى لبنان لذلك من المهم التجديد وتلبية حاجات الزبائن، فمن الشاشات العملاقة لتي تركن في الزوايا وتعرض مختلف البرامج والمسلسلات الى توفير خدمات الانترنت مجانا وغيرها مما يطلبه الزبون. بالاضافة الى ذلك تنشط المطاعم في التحضير للسهرات فيما لا يتوانى اصحاب المحال التجارية عن مواكبة الشهر عبر تمديد فتح ابوابها ودوام عملها حتى ساعات متقدمة، اذ ان نسبة كبيرة لا تقصدها الى ما بعد ساعة الافطار

السابق
ذاكرة بنت جبيل في كتاب مصوّر
التالي
مانجيان: مجلس الوزراء يشهد غدا تعيينات بسيطة لغير الفئة الاولى