قانون النسبيّة خريطة سياسية أكثر تمثيلاً

كلما ذكرت كلمة نسبية يصرخ أحدهم: «صعبة ومربكة، لا أفهمها». لكن عند «استكشاف» النسبية يتبيّن أن هناك من يتلطّى وراء جهله ليهرب إلى الخلف. الجديد هو تطور فهم بعض السياسيين لهذه الكلمة ومعهم رئيس الجمهورية والبطريرك الجديد الذي تجاوز عقدة سلفه حيال هذه الكلمة

اللعبة سهلة. ستتشكل في كل دائرة لائحتان (أو أكثر). يمكن تسميتهما اللائحة الزرقاء واللائحة الصفراء. تضم كل منهما عدداً من المرشحين يوازي عدد المقاعد النيابية المخصصة لهذه الدائرة مع بقاء التوزيع الطائفي والمناطقي للمقاعد كما هو. وما على الناخب إلا التصويت لإحدى اللائحتين الأساسيتين. وفي نهاية اليوم الانتخابي سيتبين، مثلاً، أن 60% من المقترعين أيدوا اللائحة الزرقاء فتحصل على 60% من المقاعد النيابية في هذه الدائرة، مقابل نيل اللائحة الصفراء التي حصلت على 40% من الأصوات 40% من المقاعد النيابية.

وهنا تثار غالباً قضيتان أساسيتان:
أولاً، على صعيد التمثيل المسيحي، سيسمي الشريك المسيحي في اللوائح الصفراء (فلنفترض أنه العماد ميشال عون) المرشحين المسيحيين الـ 64. وفي المقابل سيسمي الشريك المسيحي في اللوائح الزرقاء (فلنفترض أنه سمير جعجع) المرشحين المسيحيين الـ 64. يمكن أخذ محافظة الشمال نموذجاً، مهما بلغ عدد الأصوات المؤيدة للمستقبل، سيحتاج الحريري إلى أصوات إضافية.

هنا تزداد قيمة الصوت البشراوي والصوت الزغرتاوي المؤيدين للوائح الزرقاء. ولن يسأل الحريري في هذا السياق عمّا يمثله جعجع والجميل في عكار مقارنة بما يمثله هو حتى يسمح لهما بتسمية المرشحين المسيحيين الثلاثة في تلك الدائرة، وإنما كم يمثلان على امتداد الشمال. وفي ظل توازن الرعب الانتخابي الطائفي بين الحريري والثنائية الشيعية، سيتعرف الناخبون في جزين وقرى شرقي صيدا ومنطقتي الجومة والشفت في عكار على القوى السياسية التي كانت تغدق على جيرانهم الخدمات، وتستثنيهم لأن النظام الأكثري أفقد أصوات الأقليات في بعض الدوائر قيمتها. وهنا تزداد أهمية «لبنان دائرة واحدة» مع النظام النسبي.

فأصوات الناخبين المسيحيين المشتتة على امتداد الأراضي اللبنانية ـــــ خلافاً للصوت السني المتمركز في محافظتي بيروت والشمال والصوت الشيعي المتمركز في محافظتي البقاع والجنوب ـــــ ستسترجع قيمتها ككتلة واحدة.
ثانياً، على صعيد توزيع المقاعد، لا يفترض أبداً بالناخبين أن يشغلوا رؤوسهم بهذه القضية، فهم يحملون ورقة واحدة ويذهبون إلى صناديق الاقتراع. يقترعون لواحد من الخيارين السياسيين: أزرق أو أصفر. ويترقبون النتائج. اختيار60% كمرشحين فائزين من اللائحة الزرقاء و40% من اللائحة الصفراء هو مسؤولية القوى السياسية التي ستشكل اللوائح وليس الناخب. وستكون وزارة الداخلية مسؤولة عن حل الخلافات التي يمكن أن تظهر هنا وهناك.

الأهم في النسبية هو وضع حد لاحتكار تيار المستقبل التمثيل النيابي السني في المجلس النيابي. ووضع حد آخر لاحتكار حزب الله وحركة أمل التمثيل النيابي الشيعي في المجلس. تبين نتائج الانتخابات النيابية عام 2009 أن اللائحة المناوئة لحزب الله وحركة أمل في دائرة بعلبك الهرمل حصلت على تأييد زهاء 14% من المقترعين، لكنها بقيت خارج المجلس، ولو اعتمد النظام النسبي لحصلت هذه اللائحة على مقعد نيابي من أصل عشرة في معقل حزب الله وحركة أمل الأساسي. في البقاع الغربي ـــــ راشيا حصلت لائحة تيار المستقبل على نحو 54% من أصوات المقترعين فيما حصلت لائحة إيلي الفرزلي وعبد الرحيم مراد على قرابة 45% من الأصوات، في الأكثري فاز المستقبل بالمقاعد الستة، ولكن لو اعتمد النسبي لحصل المستقبل على أربعة مقاعد وخصومه على مقعدين. وهكذا دواليك في مختلف الدوائر، سيمثل الفائز والخاسر، ولن تذهب 44% من أصوات المقترعين الزحلاويين والكسروانيين والكورانيين والزغرتاويين والبترونيين إلى سلة النفايات، بل سيكون لهؤلاء من يمثلهم في المجلس.

في النظام النسبي ـــــ لبنان دائرة واحدة، ستضم اللائحتان مرشحين سنة وشيعة. وسيكون الفائزون ـــــ من اللائحتين ـــــ من مختلف الطوائف. هكذا سيكون النائب بالفعل ورغم تمثيله أولاً لقضائه، نائباً عن الأمة، كما يقول الدستور. وسيعتبر الفائز عن المقعد الشيعي في النبطية أن فوزه ما كان ليحصل لولا الصوت السني الذي وفره له حلفاؤه على اللائحة في عكار. سينتبه المرشح عن المقعد السني في طرابلس النائب محمد كبارة، مثلاً، إلى أن خطابه التجريحي سيحرمه ولائحته أصوات ناخبيه المفترضين في النبطية وبعلبك وبنت جبيل، فيهدأ قليلاً. نعم سيتغير الخطاب كله، لن يستطيع عون استقطاب الناخبين المسيحيين عبر التحريض على زعماء السنّة والدروز، عندها سيربح ناخب مسيحي ويخسر ناخب سني وآخر درزي.

الحكومة الحالية ضمّنت بيانها الوزاري إشارة أولى من نوعها إلى وجوب «أن تحظى المشاريع الإصلاحية التي قدمت سابقاً والتي تضمنت مختلف الخيارات والإصلاحات ولا سيما نظام التمثيل النسبي، بدراسة معمقة». وقد أكد الوزير مروان شربل لـ«الأخبار» التزامه عرض القانون على مجلس الوزراء نهاية أيلول المقبل، جازماً بأن المشروع الذي سيقدمه «سيعتمد على النسبية». والوزير الذي أنشأ هيئة تجتمع يومي الجمعة والسبت منذ أربعة أسابيع لإعداد مشروع القانون، استفاد، على قوله، من المشروع الذي أعدّه سلفه زياد بارود. وكان بارود قد اعتمد النسبية بصورة كاملة في القانون الذي أعده، وهو يرى أن «النسبية هي الحل الأفضل للحصول على تمثيل حقيقي».

سياسياً، كرر الرئيس ميشال سليمان أخيراً التعبير عن تطلعه إلى إعداد «قانون عصري للانتخابات النيابية تكون النسبية أحد أبرز خياراته» لأن «الميثاقية الحقيقية لا تكتمل إلا بها». ودعا لاحقاً إلى «إقرار قانون عصري للانتخاب يعتمد النسبية ليكون التمثيل متنوعاً ومتوازناً ومنسجماً مع روح الدستور في لبنان». ومن يعرف سليمان جيداً يعرف أنه لا يتبنى موقفاً كهذا دون ضوء أخضر من الصرح البطريركيّ الذي لطالما اهتم بشكل القانون الانتخابي. وقد حرص البطريرك الماروني بشارة الراعي على الاستماع الأسبوع الماضي إلى شرح مسهب من أحد الباحثين حول النسبية. وتوقف طويلاً مع زائره عند المقارنة بين قيمة الصوت المسيحي في النظام الأكثري وقيمته في النظام النسبي.

وسرَّ بالقدرة التي يوفرها النظام النسبي للزعماء المسيحيين على فرض المرشحين المسيحيين بأنفسهم بدل انتظار سعد الحريري أو غيره ليعطيهم نائباً أرثوذكسياً من أصل ثلاثة في الكورة ونائباً مارونياً من أصل خمسة نواب مسيحيين في الأشرفية. وعلمنا أن الراعي كلف فريقاً من مجموعة باحثين تزويده بكل المعلومات التي يحتاج إليها على صعيد قانون الانتخابات الذي سيكون المادة الأساسية وربما الوحيدة في نقاش الموارنة الخمسة (إذا شارك جعجع) في لقاء الديمان يوم 25 آب. ومسيحياً أيضاً، أكد أمين سر تكتل التغيير والإصلاح النائب إبراهيم كنعان أن التيّار الوطنيّ الحر يعقد منذ أسابيع خلوات للنقاش في القانون الانتخابي. وبحسب كنعان، فإن التكتل يرى أن النظام «النسبي عادل جداً ويوفر التمثيل لكل التيارات التي تتمتع بالحد الأدنى من الحضور الشعبي»

والأهم أنه يحول دون تعطيل حكم الأكثرية، فاللائحة التي ستحظى بستين في المئة من الأصوات، وبالتالي ستين في المئة من المقاعد في المجلس النيابي ستتمكن من أن تحكم. ويرى كنعان أن النسبية تفرض أن تكون الدائرة الانتخابية متوسطة وأكبر. حزب الكتائب، الذي عبّر سابقاً عن تأييده المبدئي للنظام النسبي، يستبق اللقاء البطريركي بخلوة سيبحث فيها هذا الملف، وبحسب عضو كتلة الكتائب النائب سامر سعادة لا موقف نهائياً بعد. أما القوات اللبنانية فستصدر في مهلة أقصاها الأربعاء المقبل توصيات بشأن القانون الانتخابي بعد إنشاء الهيئة التنفيذية لجنة خاصة يترأسها النائب جورج عدوان، كما يقول النائب أنطوان زهرا.

وبحسب زهرا، فإن القوات «تؤيد في المبدأ النسبية في الدوائر المتوسطة»، لكن سامر سعادة يفضل التريث في حسم الموقف ريثما تصدر التوصيات النهائية. وكانت القوات قد أقرت في نظامها الداخلي أخيراً انتخاب المسؤولين في الحزب داخل القرى والمدن بحسب النظام النسبي. أما تيار المردة فيؤكد مسؤوله الإعلامي سليمان فرنجية أن حزبهم يؤيد القضاء وما دون دائرة انتخابية في النظام الأكثري، والدوائر المتوسطة في النظام النسبي. وفي صف المؤيدين مبدئياً للنسبية، هناك طبعاً حزب الله وحركة أمل التي كانت أول من أعاد المطالبة جدياً بهذا النظام الانتخابي. ورغم مطالبة الحزب والحركة بالنسبية في لبنان دائرة واحدة، تؤكد مصادرهما عدم اعتراضهما على الدوائر مهما كان شكلها، مع العلم بأن حركة أمل بدأت أيضاً إعداد دراسة انتخابية متكاملة للدفاع عن النظام النسبي على طاولة مجلس الوزراء حين يقدم شربل قانونه. وهنا يكتمل النصاب الرئاسي فتجدون الرئيس نجيب ميقاتي والوزير محمد الصفدي أيضاً في صفوف المؤيدين للنسبية.

في المقابل، قد يمهد الموقف من النظام الانتخابي لتقارب جنبلاطي ـــــ حريري، فعضو كتلة المستقبل النائب عمار الحوري يؤكد أن الكتلة ترحب بالمبدأ بالنسبية باعتبارها خطوة متقدمة في العمل الديموقراطي، لكنها تتحفظ على إعلان موقف رسمي ريثما تدرس القانون الذي سيصدر، بينما يدور نقاش صاخب في صالونات المستقبل، إذ يرى المسؤولون أن النظام النسبي استهداف مباشر لموقعها في الطائفة السنية وعلى المستوى الوطني. ويلجأ أحد نواب المستقبل إلى نتائج الانتخابات النيابية الماضية لـ«يفضح» فخ الرئيس نبيه بري، مشيراً إلى أن «خصوماً للمستقبل حصدوا أكثر من 25% من الأصوات في الشمال وصيدا وبيروت والبقاع، أما المناوئون للثنائية الشيعية فلم يحصدوا أكثر من 10% من الأصوات»، الأمر الذي يعني «خسارة المستقبل عدد مقاعد سنية أكثر بكثير من المقاعد الشيعية التي سيخسرها الحزب والحركة بدورهما». النائب وليد جنبلاط، الضامن سيطرته النيابية في ظل النظام الأكثري على مقاعد الشوف وعاليه النيابية، يشاطر المستقبل الرأي، من زاويته الخاصة.

ويفترض أن يخصص قريباً مقالاً في «الأنباء» للدفاع عن وجهة نظره غير الاشتراكية أمام التقدميين. ويروى هنا ختاماً أن رئيس الحكومة السابق سعد الحريري اعترض خلال النقاشات في لجنة صياغة البيان الوزاري السابق على وصف القانون الانتخابي بـ«العصري». وعندما استفسر أحدهم عن سبب هذا الاعتراض، أجابه الحريري: «العصري يعني النسبية. وأنا لا أريد الاقتراب من النسبية ولا بشكل، ولا حتى السماع بها». الحريري يعرف جيداً ماذا تعني النسبية، لكنه سيصرخ: «صعبة ومربكة، الشعب لا يفهمها».

السابق
حرب: الاوضاع في سوريا تتجه نحو المزيد من التدهور
التالي
غداً امتحانات المتوسّطة في دورتها الثانية