على الطريق الإصلاح المضرّج بالدم!

 أخيراً، وبعد أن أنجز مجلس التعاون الخليجي مهمته الإنسانية النبيلة في البحرين، بداية، ثم في اليمن، واطمأن إلى انتصار الديموقراطية وتوطيد أركان الوحدة الوطنية في محيطه الطبيعي، وصلت إلى مسامع أركانه أخبار ما يجري في سوريا ولها، فاستهولوا الأمر، وعكفوا على دراسة «الأزمة» من جوانبها كافة، ثم أصدروا بياناً ينضح بالحكمة وروح الأخوة، ويحض على معالجة الأمور بالحكمة والموعظة الحسنة… خصوصاً وأننا في رمضان، شهر الرحمة والبركات الذي أنزل فيه القرآن..
لكن هذه المبادرة المعبّرة عن النوايا الطيبة لدى أصحاب الجلالة والسمو، والتي جاءت متأخرة كثيراً عن موعدها الافتراضي، كما أنها أقل بمضمونها ممّا تحتاجه سوريا الجريح في هذه اللحظة الفاصلة، قد أثارت «عتب» السلطة من دون أن ترضي معارضيها، ومن دون أن تفيد في وقف مسلسل القتل والنسف والتدمير الذي يستنزف سوريا، شعباً وجيشاً، وينهك دولتها في اقتصادها واجتماعها ويسيء إلى دورها الذي طالما تباهى نظامها بأنه شكّل نقطة ارتكاز لسياسات مغايرة للسائد مما يمليه الخارج فينفذه «الآخرون» من دون اعتراض.
وقد استدرك مجلس جامعة الدول العربية صمته المريب فعوّض عن الكلام الملتبس الذي قاله الأمين العام بعد زيارته دمشق، ببيان صيغ بالعبارات المبهمة أو الملتبسة نفسها، التي تقول ما لا يرضي أي طرف من دون أن يزعج مختلف الأطراف… ربما بدافع التمهيد لدور ما، يفترض أن الحاجة إليه ستدفع الجميع إلى طلبه على شكل «مبادرة» توفيقية..
على أنه في هذا الوقت، وعلى مدار الساعة تتفاقم المأساة السورية هولاً، مشرّعة الأبواب أمام مخاطر غير محدودة ليس على سوريا بنظامها فقط بل على كيانها السياسي ووحدة شعبها، وبالاستطراد على مجمل الشرق العربي ومن ثم على الوطن العربي كافة.
وليس تهويلاً التنبيه إلى أن شبح الحرب الأهلية أو الفتنة أو الاحتراب الذي بات يتهدد سوريا الآن سوف يتمدد بسهولة فائقة ليغطي هذه الأرض العربية عامة بدماء أبنائها، ممزقاً كياناتها السعيدة ومعيداً شعوبها إلى صورة خلقهم الأولى: طوائف ومذاهب وعشائر وحمولات وجماعات مقتتلة إلى يوم الدين!
لقد باتت الدماء تغطي وجه سوريا، الآن، والوحدة الوطنية التي كانت مثلاً في الصلابة تتصدع… فالمدن تتحوّل إلى أرخبيل من الجزر المقطعة الأوصال في داخلها، معزولة عن جوارها، والجيش يتعرض إلى عملية إنهاك مفتوحة بنشره بامتداد البلاد، وتعريضه لمواجهة كريهة لم يطلبها ولا هو يرغب فيها مع أهله، حتى لو كانت ذريعتها منع الفتنة وحفظ هيبة الدولة وبالأساس: حماية النظام.
إن الدماء باتت تغطي وجه سوريا، وتغيّب ملامحها الأصلية. وعمليات القتل المتواصلة، والكمائن المتنقلة والمذابح المنظمة سواء بأيدي «العصابات المسلحة» المجهولة باقي الهوية، أو «الشبيحة» الذين يتأكد يوماً بعد يوم أنهم أقرب ما يكون إلى تنظيم عسكري مسلح، خارج إطار القوات المسلحة للدولة، بإمرته وموازناته وعديده… كل ذلك يضعف هيبة الدولة ومرجعيتها الشرعية التي يجب أن تكون واحدة ومعروفة.
وتطور الأحداث في هذه الدولة العظيمة التأثير، والتي طالما لعبت ـ بإرادة شعبها وعزيمته ـ أدواراً تأسيسية في العمل الوطني العربي، يتخذ سياقاً مدمراً لقدراتها ولرصيدها التاريخي الذي وفر لنظامها، ولفترات طويلة، أن يلعب دوراً مرجعياً لم يتح لدول عربية أغنى وأقوى وأوفر عديداً.
لقد باتت المشاريع التي وُصفت بأنها خطوات على طريق الإصلاح خارج البحث، إذ تجاوزتها الأحداث، وجرفتها دماء الضحايا الذين تساقطوا ويتساقطون يومياً، لا سيما أن رمضان كان كريماً بتوفيره الفرص للتظاهر الليلي تحت لافتة «التراويح»، مما زاد من المواجهات ورفع منسوب المواجهات التي يكاد «الانتصار» فيها يكون أسوأ من «الهزيمة»، فالقاتل والقتيل ضحيتان، وزيادة معدلات القتل لا تقرّب الحل بل هي ترجّح استحالته يوماً بعد يوم.
ويبدو واضحاً أن أمر مؤتمر الحوار الوطني قد طُوي وتمّ سحبه من التداول، خصوصاً أن السلطة قد افترضت أنها أنجزت ما كان يفترض أن يقرّره المتحاورون العتيدون، عبر إصدارها قانوني الأحزاب والإعلام ـ بالصيغة التي استنسبتها ـ في حين يجري الحديث عن إرجاء الانتخابات النيابية ومشروع الاستفتاء على الدستور الجديد، الذي لم يُعرف من سيضع مسودته وبأية صفة وبتفويض ممّن.
بالمقابل، تزايدت الضغوط الدولية، وتوزعت «الدول» أطياف المعارضات التي لا رأس لها ولا برنامج واضحاً، يحظى بإجماعها، أو بأكثريتها، على عواصم عدة، في الشرق والغرب خصوصاً أن كثيراً من رموزها يقيم في الخارج، في حين أن معارضة الداخل والتي ارتجلت «تنسيقيات» في مختلف المناطق، لا تستطيع الادعاء أنها أنجزت مشروعاً للتغيير، أو أنها بصدد مثل هذه المهمة الجليلة التي يستحيل إنجازها في ظل الظروف الراهنة التي يتعذر معها التلاقي والتحاور للوصول إلى برنامج مشترك لسوريا الغد.
وبديهي ألا تنجز المؤتمرات التي استدعيت للانعقاد على عجل، في اسطنبول وبروكسل واسطنبول مرة أخرى، فضلاً عن تلك «الندوة» الأشبه بمؤتمر والتي انعقدت في الدوحة بقطر، مثل ذلك البرنامج الطموح «لسوريا الجديدة».
بل إن تلك المؤتمرات قد كشفت اختلاف منابع المعارضات واختلاف توجهاتها، خصوصاً أن «الحاضنة التركية» ليست بريئة من الغرض، في حين لحقت الشبهة بدور العاصمة القطرية التي انتقلت من الحد الأقصى من التعاطف والتأييد للنظام إلى الحد الأقصى من معارضته وتأليب القوى الدولية التي تربطها بها المصالح ضده، بذرائع متعددة ليس بينها ما تنادي به المعارضة السورية في الداخل.
وبمعزل عن اللقاءات التي نظمت لبعض المعارضين مع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في واشنطن، او بعض المسؤولين في عواصم أوروبية عدة، فإنه مما يلفت أن تعمل قطر على تنظيم مؤتمر جامع للمعارضين السوريين في تونس، قريباً، بذريعة الاستفادة من دروس الانتفاضة التونسية التي تعاني هذه الأيام من متاعب «ما بعد إسقاط النظام»، في ظل غياب البديل المتوافق عليه.

لقد خسر النظام رصيده الذي كان ـ ذات يوم ـ مميزاً. ولعل ذلك كان بين أسباب مكابرته أو تأخره في الإقدام على الإصلاح الذي طالما اعترف الرئيس بشار الأسد بالحاجة الملحة إلى إجرائه، وعنوانه البديهي «التحرر» من أسطورة حزب البعث «قائد الدولة والمجتمع»، وهو أمر لم يتوفر له ـ عملياً ـ في أي يوم، وإنما كان على الدوام قناعاً عقائدياً لنظام شمولي تتركز كل السلطات فيه في أيدي فئة محدودة ومعدودة لها الأمر في مختلف المجالات، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
وصحيح أن كثيراً من القوى المشبوهة أو المدانة شعبياً وسياسياً قد ركبت موجة المعارضة، وبينها بعض قيادات الإخوان المسلمين وبعض من لهم صلة بالقاعدة وحظوا ذات يوم بتسهيلات خاصة وفرتها أجهزة السلطة لهم للانتقال إلى العراق بذريعة مقاتلة قوات الاحتلال الأميركي، فضلاً عن أشتات من السلفيين والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين..
لكن الصحيح أيضاً أن قوى المعارضة السورية الفعلية والتي تتوسع رقعة انتشارها ويتبلور مشروعها للتغيير يوماً بعد يوم، لا سيما بعدما تبدى حجم الصعوبة في إقدام النظام على الإصلاح، إنما تتكوّن من جمهور المواطنين السوريين الطبيعيين أصحاب الحق في وطنهم ودولته، وبالتالي أصحاب الحق في نظام حكم يختارونه ويقوم على أسس ديموقراطية يعزز وحدتهم الوطنية ويبني تقدمها ومنعتها بجهودهم وقدراتهم وإمكانات بلادهم الفعلية ومكانتها في محيطها.
وبهذه القدرات والإمكانات والاستعداد العظيم للتضحية التي يتميز بها الشعب في سوريا أمكن لنظامها أن يلعب الدور ـ حتى الأمــــس القريب ـ الدور الاستثنائي ســـواء في محيطها العــــربي أو على المستوى الدولي في العقود الأربــعة الســـابقة.
ومع أن الفرصـــة تكاد تفـــلت وتضيع، فما زال بإمكان النظام أن يتجنب أن يقع في محـــظور التورط في التسبب في الكارثة التي تتهدد ســـوريا، دولة وشعباً، وتتهـدد معهما المشرق العربي جميعاً، من ساحل المتوسط إلى بحر العرب والمحيطين.

[ ملحوظة: كتبت هذه الكلمات قبل «البيان التاريخي» الذي أصدره الملك عبد الله بن عبد العزيز موجهاً إلى شعب سوريا مطالباً «بإصلاحات جدية» مخيراً القيادة السورية «بين الحكمة أو الفوضى والضياع». 

السابق
المرعبي: منصور يتلقى التعليمات من سوريا
التالي
لماذا المخيمات؟