عساف أبو رحال: حبر قلمه يغرفه من دمه

عام يمرّ بين مواجهة الجيش اللبناني للمعتدين من الجنود الإسرائيليين على الحدود اللبنانية في العديسة (الحدودية)، يوم حادثة الشجرة، في 3 آب 2010، وبين التصدي الأخير للاعتداء على الحدود اللبنانية في الوزاني (الحدودية)، يوم عيد الجيش، في مطلع آب الجاري. هو فعل العدوان عينه الذي ما انفك العدو الإسرائيلي يرتكبه بحق لبنان، شعباً وأرضاً. ربما لو لم يسقط عساف أبو رحال شهيداً في مواجهة العديسة، حتماً كنا سنراه «يرابط» بعينه وقلمه، ليكتب من الوزاني مجريات ما يجري، أو أنه كان سيسقط في الوزاني أو في العرقوب.
لم يزل عساف يربض ها هنا، في العديسة التي ربحت «مواجهتها»، لكنّ الراعي الدولي لم يتوان عن تجريدها من «شجرتها»، موضوع النزاع وشرارة المواجهة. هنا في العديسة اسم عساف أبو رحال بات محفوراً في الذاكرة الوطنية والشعبية، وكذلك المهنية، حيث يستشهد الإعلاميون مثل الجنود، من أجل كلمة الحق والصورة الحقيقية، ومن أجل الوطن.
عام يمر، والمشهد لا يغيب. لم يزل هنا، هذا الجندي الإعلامي، الباحث عن الحقيقة التي باتت جزءاً لا يتجزأ من قوته اليومي. منها يمنح عائلته المتواضعة خبزها، كفاف يومها، ومنها مداد قلمه يغرفه من دمه، ويكتب ما تراه العين حرفاً حرفاً. هي العين المصوّبة نحو الحقيقة دفعت عساف نحو موته الأول وحياته الأبدية. من أجلها رأيتك هنا تفرد طلتك الأخيرة قبل امتطاء جواد الرحيل. نعم يا صديقي لم تزل في العديسة، بين ركام البيوت «المتوالدة» بيتاً إثر بيت، كلما دكّها حقد العدو، عينك «كاميراك» تشهد على الحقيقة، مجبولة بشظايا دمك، وصورتك الأخيرة التي تؤرّخ مثل قلمك، للحقيقة، لذاك العدوان غير المنتهي.
«ترى ولدتك أمك في العديسة قبل أن أعرفك؟ سؤال ردّدته سعاد وهي تشيّعك. من رأى عساف يتجاوز معاناة المهنة وخطورة الوصول إلى العديسة، تماماً مثلما كان يفعل في مرتفعات العرقوب، عند تخوم كفرشوبا وشبعا، العباسية والوزاني، يؤمن بأن عساف ولد في العديسة، عند بوابة الوطن، الممتدة من الناقورة حتى مزارع شبعا.
في المشهد الأخير، من فصل مواجهتك، الذي دوّنته بحبر دمك، رأيتك تعتلي المنصة بخطوات واثقة هادئة. أتيت من الساحة نحو التلة سيراً على الأقدام، تصوّب نحو تلك الزاوية من حاجز الجيش في العديسة، تلقي على الجنود تحيتك المعهودة التي طالما ألقت حنانها على المقاومين المرابضين عند حدود الوطن، تعانق الجنود بنظرات أسهمت في اختيار «رفقة» الشهادة. في تلك الزاوية، قبل دوي الصوت وانفجار الدخان والركام، حضرت بكل سني عمرك، وتجربتك وخبرتك، وجهادك في الحياة والمهنة، بجسدك النحيل، بدفتر ملاحظاتك، بعدستك «التعيسة» بحسب ما كان يحلو لك التعبير، وأنت تطالب المرة تلو المرة باقتناء كاميرا تستطيع التقاط التفاصيل وقذائف العدو. حضرت بلحمك الحي، لتكتب خبرك. في هذا المشهد كنت أنت مثل عادتك، بطيبتك وتواضعك وسماحتك وهدوئك، تعانق الأرض والجنود لتصير معهم الصوت والدخان، لتصير الشهادة و«الشجرة».
في العديسة كما في حولا والوزاني، كلنا نحيا هنا وكلنا نسقط هنا، حيث سقط عساف أبو رحال والرقيبان في الجيش اللبناني عبد الله محمد طفيلي وروبير العشي. من أشلائهم وصورهم، بنادقهم وعيونهم، من جراح قدم الزميل علي شعيب ومن جراح نفوسنا الشاهدة على فقدان أحبتنا، نستمد وجودنا. من ذاكرتنا الحافلة بصور الضحايا والشهداء والأشلاء والبيوت المدمرة، نبقى ونستمر هنا. هنا في العديسة يحمل «الشاهد» اسم عساف، إكليل غار على جبين الوطن، لكي يبقى الوطن.
 

السابق
عين الحلوة: إحباط محاولة لاغتيال “اللينو”
التالي
شامبانيا فرنسية «حلال» في شهر رمضان