هدم آخر دكان فلسطينية في سوق «العجمي»

 لم تكن «اسرائيل» يوماً، بحاجة إلى تصريح أو إذن من «حماة حقوق الإنسان» الصوالين الجوالين في أروقة غرف «التشريع» و«المحاكم» الدولية، ولا حتى من أصحاب الأرض أنفسهم، للمضي قدماً في تهويدها لفلسطين، وتحويلها إلى وطن على قياس «يهوى». لكن دولة العدو أيضاً، أدركت دائماً أهمية العمل بهدوء ووراء الكواليس. ما يحصل في أرض البرتقال الحزين، يافا، مثال حي على سياسات «اسرائيل» في مواجهة الحق الفلسطيني.
وتعبق أخيراً في مدينة يافا رائحة مخططات تهويدية يكتنفها كثير من الصمت والهدوء، حيث تنقلب معالم المدينة ويتحول أحد أحيائها التاريخية «العجمي»، إلى «جنة الأغنياء الجديدة»، وكأن أغنياء اليهود يهربون من أماكن أخرى من خارج يافا ومن خارج البلاد، ولا يجدون مكانا إلا هذه المدينة المنكوبة، وتحديدا «حي العجمي».
للمتدينين حصراً!
كما تخطط مجموعة دينية «إسرائيلية» تدعى «بئموناه»، لبناء ما يزيد على 20 شقة في حي العجمي وسط المدينة، لتضم حصرياً المنتمين إلى الأيديولوجية الصهيونية المتشددة، هذا إلى جانب سياسة بلدية الاحتلال القائمة على تحقيق تفوق ديمغرافي يهودي يضمن إحكام القبضة على يافا.
ثلث سكان يافا هم من الفلسطينيين اليوم، عددهم 17 ألفا، لكن الديمغرافيا في المدينة تتغير بسرعة، فهناك على الأقل 32 مشروعا فاخراً دخلت في مرحلة التطبيق في يافا، ويتركز معظمها في الأحياء الفلسطينية من المدينة، وبحسب التقديرات والمخططات، فإن عدد السكان اليهود سيتضاعف في العقد الآتي. سيكون ازدياد عدد السكان اليهود على حساب السكان الفلسطينيين طبعاً، حيث يصعب على الفلسطينيين مواجهة كل المؤامرات وأساليب التطهير العرقي، هذا إلى جانب المقترحات المغرية التي يضعها أمامهم المستثمرون-المبادرون ويقتنعون ببيع بيوتهم.
هدم آخر دكان
وكمثال على ما يجري يومياً بين اروقة المدينة بعيداً من عيون الإعلام، في الأمس، رافق موظفو دائرة الإجراء التابعة لبلدية تل الربيع – يافا عدداً من رجال الشرطة، بإخلاء آخر دكان في سوق العجمي القديم في مدينة يافا، والذي يعود إلى صاحبته لأم علي، حيث أخلى رجال دائرة الإجراء محتويات الدكان وألقوها في الشارع وسط تجمهرعدد من المارة والمواطنين في المكان.
وقد أخليت أم علي من دكانها بحجة عدم دفعها للضرائب والإيجار، إلا أن أم علي أكدت أنها تدفع الضرائب للبلدية وإيجار الدكان لـ«صاحبته» اليهودية، وتقول أم علي أن اليهودية مالكة الدكان قامت بتزييف توقيعها على أوراق توافق فيها على إخلائها من الدكان الذي يعتبر مصدر رزقها الوحيد.

«تطوير» من نوع آخر
«إسرائيل» -كالعادة- تطلق على اسم عملية التهويد والإخلاء هذه، «عملية تطوير للمدينة»، لكن من الواضح أنه في يافا يتخذ التطوير معنى آخر بالنسبة إلى السكان الفلسطينيين، حيث يعرّف بالطرد والتشريد وتزوير التاريخ، في عملية تهويد «هادئة» وبطيئة، تزحف كالسل في معالم المدينة، تهدم البيوت التي يمنع أهلها من ترميمها بحجج «أمنية» و«سياحية»! وتدفع مبالغ خيالية لا تصدق أحيانا، تصل إلى نصف مليون دولار لبيت متواضع للغاية، إما الشرط فهو بسيط للغاية أيها الفلسطيني المسكين «اقبض واترك».
وكانت قد أدت سياسة «إسرائيل» لنقل المهاجرين اليهود الفقراء إلى العجمي خلال الخمسينيات إلى زيادة الاكتظاظ سوءاً، فقد أصبح الحي الأكثر حرماناً وإجراماً في تل أبيب. وبعد عقود من الإهمال، اكتشف المطورون إمكانيات يافا، فبدأ العمل على إعادة إحياء المدينة القديمة في الستينيات لتغدو لآن منطقة ساحرة، لكنها تبنى على أنقاض الوجود الفلسطيني.
وعلى مدى ثلاثة عقود، لم يمنح أي ترخيص من قبل سلطات المدينة لأي فلسطيني بتوسيع مسكنه. فقامت بعض الأسر بهذا الإجراء «بشكل غير قانوني»، نظراً لتوسعها. وفي العام الماضي صدرت أوامر بإخلاء أو تدمير 500 منزل كما يواجه عدد أكبر من الأسر غرامات بمبالغ ضخمة.
القاضي راضي
وكانت ردّت محكمة العدل العليا «الإسرائيلية» العام الماضي، الالتماس الذي قدمه أهالي الحي الفلسطيني العجمي في يافا ضد الجمعية الاستيطانية التي ستبني بيوتاً للمستوطنين المتدينين فقط، وتحرم الفلسطينيين أصحاب الأرض من حيهم.
وكانت «دائرة أراضي "إسرائيل"» قد وقعت على عقد لتأجير الأرض للجمعية الاستيطانية المتطرفة، شريطةً أن يسكن في البيوت التي ستقام من هم من المتدينين «القوميين اليهود»، وهؤلاء ينتمون الى الأحزاب اليمينية المتطرفة.
وزعم القضاة «الإسرائيليون» في قرارهم أنهم لا يستطيعون التدخل في هذه المرحلة، خصوصاً بعد أن حصلوا على وعود من إدارة «دائرة أراضي "إسرائيل"» بوضع شرط على كل مؤسسة أو جمعية بعدم التفرقة على خلفية دينية أو قومية. وأضاف القضاة: أن «الصفقة قد جرت ولا يمكن إلغاؤها».
«اقبض واترك»
السكان الفلسطينيون في حي العجمي وفي الأماكن التي تخطط بلدية تل أبيب وشركة «تطوير يافا» فيها لكي تتحول إلى مكان سياحي جذاب، يحاربون لوحدهم، وبعيداً عن بهرجات الإعلام.
في حالة يافا التي تباد معالمها الفلسطينية، وحتى سكانها، تتوفر كل الشروط لاستكمال مخطط التهويد، الذي لم تنجح حتى بلدية تل أبيب في إخفائه.
السكان يواجهون عملية منهجية للتهجير والطرد. هم ممنوعون من الترميم، وممنوعون من بيوت للأزواج الشباب، تحاصرهم وتطاردهم البلدية. وفوق كل هذا إغراءات مالية تصل إلى حد الخيال، أما شرطها «فاقبض واترك».
تضغط السلطات «الإسرائيلية» بجنون على سكان يافا لقبض مبالغ مالية هائلة، وترك المدينة، عبر أساليب ترهيبية خبيثة، وتدّعي أمام الإعلام، أن الفلسطينيين يفعلون ذلك عن طيب خاطر، في الوقت الذي لم تقدم البلدية أي عون أو مساعدة للسكان الفلسطينيين، إذ منعتهم من ترميم بيوتهم، بل أصدرت أوامر إخلاء وطرد بحقهم، وحاصرتهم بقصد إخلاء المدينة ثم تهويدها.
نيات علنية
جزء من المستثمرين اليهود لا يحاول إخفاء حقيقة أن الحديث يدور عن سياسة موجهة وممنهجة لطرد أبناء يافا. فمثلا، ان شموئيل بلاطو شارون وشركة «توطين وبناء» (شيكون فبينوي) التي تملكها ساري اريسون صاحبة غالبية الأسهم في بنك هبوعليم يخططان لإقامة حي فاخر، في بيارة دكة، احد الأحياء الفقيرة والمكتظة في يافا، حي فاخر ومغلق ومحاط بجدار وحرس، ويشمل المشروع أبراجا متعددة الطوابق تطل على البحر، ويصل عدد البيوت إلى 1300 وحدة سكنية، والمعدة بغالبيتها ليهود أغنياء من فرنسا.
وبحسب الاتفاق الذي وقعه أصحاب البيوت الفلسطينيون (مرغمين) مع «بلاطو شارون»، فان كل صاحب بيت سيحصل على ربع مليون دولار، لكن ماذا عن بيت في المشروع لكل صاحب بيت؟ هذه الإمكانية لم تطرح حتى من قبل المستثمرين والمبادرين، «هل تعلم كم يكلفني مبلغ 250 الف دولار؟»، كما قال شارون عند التوقيع.
ويضيف شارون: «قسم كبير من السكان تسللوا إلى الأرض قبل عشرين عاماً!! (أي من الفلسطينيين أصحاب الأرض التاريخيين)، وهم يعرفون جيدا إنني لست ضد الفلسطينيين، عندما تنتهي الحرب والعداء المتبادل ستأتي أيام أخرى وعندها قد يكون الأمر مختلفا».
ستنتهي الأعمال في المنطقة المغلقة التابعة لشارون واريسون بعد أربع سنوات، وسينضم «الحي اليهودي الفاخر» إلى مشاريع أخرى، ستنفذ في يافا في السنوات القريبة.
ابرز هذه المشاريع هو مشروع الحي، والساعة، وسوق الخردة ومنطقة نوغا.
وبحسب تقديرات مختلفة فان البلدية ستدفع مليارد شاقل ليافا في السنوات التسع المقبلة، «تخيل مليار شاقل تدفع بدل تطوير لبلدة بحجم يافا»، كما أكد أحد الموظفين الكبار في بلدية تل أبيب.
«ترانسفير»
ويرى رئيس لجنة حي العجمي كامل اغبارية أن «ما يحدث في يافا هو ترانسفير»، ثمن شقة جديدة في يافا يبدأ من مليون ونصف المليون.
موضة
ومن بين المشهورين الذين انتقلوا للسكن في يافا في السنوات الأخيرة مخطط المدن ايلان فيبكو، والمصمم يهشواع كستائيل الذي ترك مدينة رمات هشارون، والمغنية مازي كوهين والكاتب تسور شيزاف والصحافي دانيال بن سيمون. أما الموضة الجديدة فهي مجموعة مشترين مشهورين، في مشروع نوغا تخطط عائلة ساكال لاستيعاب 36 شخصية مشهورة من بين هؤلاء مقدم تلفزيون مشهور ومدرب كرة سلة من الصف الأول».

يافا في التاريخ
هي مدينة من أقدم مدن فلسطين التاريخية، تقع على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. تبعد حوالى 60 كيلومتراً عن القدس. في عام 1949 قررت حكومة الاحتلال «الإسرائيلية» توحيد مدينتي يافا وتل أبيب من ناحية إدارية، تحت اسم البلدية المشترك «بلدية تل أبيب – يافا».
احتفظت مدينة يافا بهذه التسمية «يافا» أو «يافة» منذ نشأتها مع بعض التحريف البسيط من دون المساس بمدلول التسمية. والاسم الحالي «يافا» مُشتق من الاسم الكنعاني للمدينة «يافا» التي تعني الجميل أو المنظر الجميل. وتشير الأدلة التاريخية إلى أن جميع تسميات المدينة التي وردت في المصادر القديمة تعبّر عن معنى «الجمال».
هذا، وإن أقدم تسجيل لاسم يافا وصلنا حتى الآن، جاء باللغة الهيروغليفية، من عهد «تحوتموس الثالث» حيث ورد اسمها «يوبا» أو «يبو» حوالى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، ضمن البلاد الآسيوية التي كانت تحت سيطرة الإمبراطورية المصرية، وتكرر الاسم بعد ذلك في بردية مصرية أيضاً ذات صفة جغرافية تعرف ببردية «أنستازي الأول»، تؤرخ بالقرن الثالث عشر قبل الميلاد، وقد أشارت تلك البردية إلى جمال مدينة يافا الفتان بوصف شاعري جميل يلفت الأنظار.
 

السابق
«اليسوعية» تخرّج 389 طالباً في «الأعمال»
التالي
حقوق الفلسطينيين في لبنان… مشكلة عمرها من عمر النكبة