ابن عين المريسة سبح لينجو من «بحر الدم» وأنقذ آخرين اللبناني الناجي من مجزرة النروج: وليد جنبلاط علم بالجريمة قبل الشرطة

 قبل الشرطة النروجية، عرف رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» النائب وليد جنبلاط بأنّ ثمة قاتلاً طليقاً على جزيرة يوتويا القريبة من العاصمة النروجية اوسلو «يعدم» الطلاب والشباب المراهقين ويقتلهم واحداً تلو الآخر.
فالرسالة الأولى التي خرجت من تلك الجزيرة حين بدأت «المحرزة الجماعية» على يد اندريرس بيرينغ بريفيك (32 عاماً) النروجي المنتمي الى اليمين المسيحي المتطرّف، كانت عبر مسؤول الجامعات الخاصة في «منظمة الشباب التقدمي» التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي باسل العود، ووصلت إلى هاتف مسؤول العلاقات الخارجية في الحزب حسام حرب، الذي أوصلها إلى «وليد بيك» فوراً.
باسل، كان في تلك الجزيرة للمشاركة في المخيم الصيفي لقطاع الشباب في «حزب العمل» النروجي الحاكم وإلقاء محاضرة عن أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. علماً ان هذا المخيم يستقطب شبابا اشتراكيين من كلّ أنحاء العالم، خصوصا من دول العالم الثالث، من سودانيين وأفغان وإيرانيين وفلسطينيين ولبنانيين… ويضمّهم في مجموعة من النشاطات والنقاشات، تحت عنوان «الاشتراكية» و«الإنسانية».
يوم الجمعة الفائت كان باسل قد أنهى الرياضة الصباحية، بعد الترويقة، حين اتصلت به المسؤولة عن مجموعته، المرأة النروجية إيدا، وقالت له إنّ ثمة تفجيراً في أوسلو، ويجب التجمع في قاعة الاجتماعات من أجل شرح أسباب التفجير للمشاركين.
في هذه الأثناء بعث مسؤول العلاقات الخارجية في «التقدمي» حسام حرب برسالة الى العود من بيروت تستفسر عن حاله، رغم أنّه بعيد عن أوسلو كثيراً. فأجاب مسؤول الجامعات الخاصة في الحزب بأنّه بخير. لكن ما هي إلا دقائق حتى لعلع صوت الرصاص خارج قاعة الاجتماعات. أطلّ باسل من النافذة، فرأى رجلا بثياب سود، هي ثياب رجال الشرطة النروجية، يطلق النار. كان بعيدا عن العود نحو خمسة أمتار لا أكثر. لكنّه من زاوية تمنع الرجل المجهول من رؤيته.
بعد ثوان مرّت فتاة صغيرة قرب الرجل، فأطلق النار على رأسها، لتخرّ صريعة… حتى تلك اللحظة، كان باسل يظنّ أنّ في الأمر شيئا خاطئا. لكنّه، وبعدما رأى الفتاة ميتة، عرف أنّه وسط جريمة كبيرة وبدأ يفكّر في طريقة للهرب.
القاتل كما رآه العالم كلّه أشقر وعيناه زرقاوان. وكان يطلق النار رصاصة رصاصة، ليوفّر ذخيرته، وليقتل أكبر عدد ممكن من الشباب. خرج باسل مع المجموعة التي معه من الباب الخلفي لقاعة الاجتماعات، وتوجّهوا إلى جهة البحر ليختبئوا بين الصخور وخلف بيت خشبي صغير جدا، لا يتّسع لأكثر من شخصين.
وبعد أصوات الرصاص الكثيفة، ساد هدوء لبعض الوقت، قبل أن يأتي إلى جهة المختبئين صوت باللغة النروجية. بدأ البعض في البكاء والتهليل. فسأل باسل: لماذا تبكون، ماذا قال الصوت؟ فأجابوه: «يقول إنّ الشرطة وصلت وإنّنا صرنا آمنين».
في هذا الوقت كان باسل قد رصد القاتل عن بُعد. ورأى ثياب الشرطة السوداء ووجه القاتل، وعرف أنّه يكذب على المختبئين ليخرجوا، فقال لمجموعته «إنّ القاتل هو من قال هذا، وأن لا شرطة ولا مواكب وصلت».
ورصد العود مجموعة أخرى على يمين مكان اختبائه، فيها ما يزيد على ثلاثين مراهقا وشابا وشابة، وعلى يساره، خلف بيت آخر، على «سطيحة» فوق البحر، نحو عشرين آخرين، وفي المياه، بعيدا إلى الأمام، مجموعة رابعة من نحو عشرين أيضا. وإلى جانبه، في مجموعته، كانت هناك مراهقة صغيرة تبكي، وإلى يساره عضو في مجلس النواب اسمها «ستينا»، و12 آخرون.
حين قال باسل للمجموعة إنّ القاتل هو الذي يُطمئن الناس ليقتلهم، صمتوا واستكانوا، لكنّ المجموعة التي إلى اليمين صدّقته، ولم يكن باسل قادراً على الصراخ لتحذيرهم، وإلا انكشف مخبأ مجموعته. فبدأوا بالخروج واحدا تلو الآخر، وكان القاتل يعدمهم ببرودة دم واحدا تلو الآخر، طلقة طلقة، ليوفّر الطلقات.
كان يحمل رشاشا أوتوماتيكيا لكنّه يستخدمه بالطلقة وليس بالرشّ، وكلاشينكوف، ومسدّسا في حال تعطّلت إحدى أدوات القتل.
على الجزيرة الصغيرة، مسار دائريّ يوصل المجموعات المختبئة بطريق القاتل. والأخير كان أنهى قتل المجموعة الأولى إلى اليمين وانتقل إلى التي في الأمام، «وبعدما طمأنهم أيضا ثم أعدمهم ببرودة غريبة»، بحسب العود.
في هذه الأثناء كان باسل يبعث الأخبار أولا بأوّل إلى حرب في بيروت عبر هاتفه «الجوال». وفيما كان حرب محتارا يصدّق أم لا، كان العود يحلف بدماء كمال جنبلاط وبأرواح الشهداء ليصدّقه.
وبعدما أنهى القاتل إعدام المجموعة الثانية بقيت أمامه مجموعة واحدة قبل أن يصل إلى باسل ومجموعته. هنا قرّر العود ان يتصرّف، هو السبّاح الماهر، من عين المريسة على شاطئ رأس بيروت، وابن عمّه مدرّب غطس وصديقه الحميم.
أخذ نفسا عميقا، بعدما طلب من القادرين والراغبين بمرافقته ان يسبحوا للنفاذ بحياتهم: «هذه هي الطريقة الوحيدة لنحاول النجاة، قلتُ لهم: مَن يعرف السباحة فليلحق بي». الفتاة التي إلى جانبه ساعدته، كذلك شاب آخر. وصار باسل يسبح على ظهره ويصرخ بهم أن يسبحوا. كان القاتل بعيدا نحو عشرين مترا عن موقع المجموعة، وما زال يعدم المجموعة الأخيرة.
كان المراهقون والشبان، ومن شدّة خوفهم، لا يجرؤون على السباحة، وبدلا من ذلك يترجّون القاتل أن يعفو عنهم: «لو سبحوا، أو لو هجموا عليه معاً، لكان نجا معظمهم، لكنّ خوفهم منعهم من التحرّك، وتجمّدوا في أماكنهم إلى أن أعدمهم واحدا واحدا»، يقول العود.
سبح باسل نحو عشرة أمتار تحت الماء، ثم خرج ليأخذ نفَسا آخر وغطس لعشرة أمتار أخرى… وهنا رأى من بعيد مركبين، على أحدهما رجل يحمل منظارا. أخذت الفتاة التي إلى جانبه بالبكاء: «هذا إرهابي آخر»، قالت، مستنتجة ذلك من المنظار: «هذا أقصى ما يمكن أن نفعله، وأذكى ما يمكن أن نصل إليه»، أجابها العود.
وصل المركبان، وتبيّن أنّهما صيّادان كانا قريبين وسمعا صوت الرصاص وقرّرا مساعدة المنكوبين: «هناك ناجون يمكن أن نسحبهم»، قال له باسل، فوافق المركب بعدما كان يريد سحب الثلاثة السابحين، وإيصالهم إلى برّ آمن.
وفعلا، اقترب المركبان من مكان المجموعة الأخيرة، ونقلوا الـ12 الباقين على المركبين إلى برّ آمن، ليخرجوا بسلام بهمّة ابن عين المريسة، باسل العود، الشاب الذي هزم القاتل الأشقر: «الباقون ماتوا كلّهم، ما عدا الذين سبحوا أو اختبأوا في أماكن لم يرها القاتل».
وفي رأي «العائد من الموت» أنّ القاتل «سيكون رجل القرن».
باسل استيقظ اليوم على اتصال من «وليد بيك»: «أيقظني وطلب أن يراني، فزرته واستفسر منّي عن كلّ ما جرى، وكان مندهشاً من تأخّر وصول الشرطة إلى الجزيرة لأكثر من ساعة ونصف الساعة»، ويضيف: «عرف قبل الشرطة النروجية، واتصل فورا بالأمين العام للاشتراكية الدولية لويس أيالا».
تعلّم العود من هذه التجربة أنّ الاعتدال في خطر: «المهمّ أن نقتدي بالنروجيين البعيدين عن الماديّات والمظاهر، والإنسانيين». وهو يتنقّل حاليا بين وسيلة إعلامية وأخرى، ويتواصل مع أصدقائه الناجين، ويتضامن مع الضحايا ويعزّيهم، إما بالتصريحات أو بالنشاطات، مثل وقفة التضامن التي أنهى المقابلة أمس وتوجّه إليها، أمام السفارة النروجية في وسط بيروت.
باسل في بيروت حاليا. نجا من المجزرة، بالسباحة التي تعلّمها في عين المريسة. ابن بيروت هزم ذكاء القاتل الأشقر، الرجل الأكثر إجراما في القرن الواحد والعشرين… حتى الآن.
 

السابق
ليس بَينكم قدّيسون!
التالي
عيد: سلاح المقاومة ضمانة للدفاع عن للبنان