يوم كانت النجف قِبلة حوزات قم

 تأثير وتأثر بين جبل عامل والنجف. بدأ في العام 580هـ واستمر إلى الآن. من مجلس العزاء، واللطميّة إلى الندوات الشعرية وجلسات الشاي، إلى روح التجدد في النجف وإصدار المجلات ومناهج التعليم، على أيدي العامليين، محطات يرصدها هذا التحقيق الثقافي في عامليات.
تعود – كما هو مشهور – بداية المدارس الحوزوية إلى تاريخ مدرسة جزين غير أن هذا الاعتقاد تبدّد بعد معلومة تفيد بأن الشيخ حسين بن إسماعيل العودي الجزيني، المتوفَى سنة 580هـ رحل إلى الحلة ودرس على ابن إدريس – سبط الشيخ الطوسي – في أول عهد مدرسة الحلة، وأن بعض العامليين درسوا فيها قبل الشهيد الأول، منهم: صالح بن مشرف والشيخ ابن وسام العيناتي ومنهم ابن الحجة والد الشهيد الأول وعلى هذه المعلومة يمكن أن نعيد الصلة العلمية إلى أوائل القرن السادس الهجري.

عادات نجفية
وكيفما كان الأمر، فإن ثقافة جبل عامل في نمط التفكير وأساليب التعبير وفي العادات والتقاليد وبعض وسائل العيش هي نجفية. فقراءتنا القرآنية مأخوذة من القراءة البغدادية، حسب التقسيمات التي يذكرها أصحاب هذا الفن، وفي السنوات الأخيرة ومنذ الانقطاع ما بين جبل عامل والعراق، بدأت القراءة المصرية تأخذ مكانها، ليس في جبل عامل ولبنان فحسب بل كانت هذه السنوات عهد تراجع للمقام العراقي خارج العراق. ويبدو أن دروس التلاوة في بعض الفضائيات سيحافظ على إعادة دور هذه الطريقة لرسوخها من ناحية، ولغناها بالتفريع من ناحية أخرى.
تلاوة الشعر في المراثي الحسينية وما شاكل، تستتبع القراءة القرآنية، فهي أيضاً تردد على النمط النجفي، وهذا أمر طبيعي، لأن أسلوب الخطابة في المنبر الحسيني عالة على الأسلوب النجفي، مع عدم خبرة القراء العامليين بمواطن المدِّ نهاية البيت الشعري وحركاته، وخارج تلاوة الشعر، فترتيب الخطبة يتخذ النهج النجفي نفسه.

اللطمية إيرانية
أما الحركات المرافقة للعزاء من لطم، أو مواكب وضرب الزناجيل، فاللطم هو القائم منها في جبل عامل عند النساء بالذات، والزناجيل والتطبير، أدخلهما إلى النبطية الميرزا إبراهيم – وهو إيراني – وتابعها الشيخ عبد الحسين صادق مع تمثيلية الشبيه، ومارس الجباعيون الشبيه لغرض سياحي، وكانت تحولت للغرض نفسه في النبطية، ولكن الاحتلال الصهيوني أعاد إليها معايير إقامتها الأولى. والآن تقام تمثيليات في بعض القرى متخذة شكلاً لإخراج الذكرى الحسينية إلى حالة تتناسب مع الزمن القائم لكنه لا يخرجها من أن جذورها هي "الشبيه" الذي نشاهده بحواضر الشيعة في العراق عشية التاسع من عاشوراء.

الحوزات القميّة تتقدمنا
جذور المعرفة نقلت إلى جبل عامل، عن طريق الخريجين من حوزات النجف والحلة، وما هو معروف منها كان في القرن السادس كما تقدَّم، ومنذ ذلك العهد حتى الآن لا تزال النجف هي الأساس، ويشاركها الآن خريجو الحوزات القميّة، منذ أن سُدَّت الآفاق العراقية. كما أن التقليد، يُرجع فيه إلى النجف، وإلى من تخرج من النجف، بمن فيهم بعض من يُرجع إليهم في إيران. أن جذور الثقافة العلمية الإيرانية نجفية، لأن العامليين الذين تولوا شؤون القضاء ونشر المذهب في بدايات العهد الصفوي، هم خريجوا النجف.

الطبع غالب
في المثل الشعبي أن: من عاشر القوم أربعين يوماً أصبح منهم، ويعني أنه تطبع بطباعهم وتأثر بثقافتهم، وعليه فعشرة قرون كافية لتشكيل الذهن تشكيلاً ثقافياً ينال مختلف جوانب الحياة العاملية، وبالخصوص إذا استعرضنا جغرافية الحوزات الأساسية في جبل عامل، وهي بحدود العشرين المعروفة منذ الشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني حتى عصرنا وهي موزعة على مساحة جبل عامل وتتخطاه إلى بعلبك وكرك نوح، والطلبة من أقاصي الحدود الجنوبية إلى بعلبك وكرك، ينهلون العلم من كامل منابع هذه المساحة، فابن "ميس" مثلاً، وهي في الحدود الشرقية لجنوب جبل عامل، يقصد كرك لينهل منها. وعندما يبلغ المميز من هذه الحوزات درجة لائقة يقصد النجف لمعينها الثر، ويعود إلى قريته ليقيم حوزة، ولنا أن نقول بأن التشكيل الذهني العام والسلوكيات هي نجفية وهذا ما نلحظه خارج دراسة العلوم الإسلامية بنماذج من الأنشطة نعرض لبعضها فيما يلي:
الندوات الشعرية
كان رفاق الدراسة في النجف يقضون أوقاتهم خارج الدرس وما يرتبط به من تدريس ومذاكرة ونقاش علمي، يقضونه بجلسات أو سمر يتداولون شؤون الأدب شعراً ونثراً، تلاوة أو رواية، ومواضيع أخرى. وكانت أغراض الشعر تدور حول وجدانيات وإخوانيات ومديح ورثاء وتهنئة بزفاف أو مولود، والمناسبات الداعية لواحدة من هذه الأغراض كثيرة، وبالخصوص المناسبات الدينية التي أخذت أكبر مساحة من شعر طلبة النجف، وكان العامليون مساهمين رئيسين.
وأحياناً يصدر ما يستدعي الانحياز لجانب أو لشخص أو لموضوع، فتفتح أبواب التعبير عن الميل والرد عليه، وتنعقد جلسات للتعبير والرد، والرد على الرد وقد تطول.
ومن أهم ما ذكر في هذا المجال أن السيد صدر الدين شرف الدين نشر مقالاً يبرز قدرة النثر على مجاراة الشعر فيما يختص به الشعر من أخيلته وصوره ورقته وعذوبته ويباريه، فانفتح باب واسع للردود المعارضة والردود المؤيدة، وكنت أطول وأهم معركة أدبية، وعلى أهميتها الفكرية لم تكن لتخلو من النيل من الأشخاص.
وقد دفع النشاط الأدبي بعض العامليين في النجف لإقامة نشاط يلوِّن الجو الأدبي بنكهة خاصة، فأسست سنة 1925 "جمعية الشبيبة العاملية"، حتى إذا عاد بعضهم إلى جبل عامل كانت "عصبة الأدب العاملي".
هذه المناخات الأدبية والفكرية في النجف كان لها انعكاسها في جبل عامل، ولم تنحصر بالمتعلمين، فقد تأثر بها بعض الأميين فتمكنوا من نظم الشعر المعقول والجيد أحياناً، ومنه شاع القول أن تحت كل حجر في جبل عامل شاعر.

أثر النجف
تأثر الطلبة العامليون بالنجف الأشرف لم يكن بعيداً عن همومها إن كان بما يتعلق بالنظرة إلى المناهج الدراسية وضرورة تعديلها بما يناسب والزمن القائم، أو بأي أمر اجتماعي أو سياسي. وقد تفاعلت هذه الاعتراضات، وساهم بإثارتها ما تداخل من أفكار حديثة، إن كانت اجتماعية الطابع أو يسارية الاتجاه. واشترك فيها العديد من طلبة الحوزة الشباب، وكانوا في أغلبهم من العراقيين واللبنانيين، بعدد كبير نسبياً، وكان بينهم أفراد من السعودية والبحرين حتى أن بعض الذين تحمّسوا لفكرة التطوير، وربما بعضهم تحت ضغط الحاجة، انفصلوا عن الجسم الحوزوي واتجهوا إلى التدريس فاستفادت منهم الثانويات، وممن تابع الدراسة حتى الدكتوراه التقحوا بالجهاز التعليمي الجامعي، وبعضهم اتخذ الصحافة مهنة. وتفرغ محمد مهدي الجواهري للشعر فكان سيده في العرب.

الصحافة النجفية
كانت الصحافة النجفية عمدة النشاط الأدبي والفكري لكل طلبة الحوزة سواء بسواء، ومهما اتجه الفرد، فإن نشاطه مؤسس على مجلات الغري والبيان والهاتف، ولهذه تأثير في إصدار السيد محمد رضا شرف الدين مجلة الديوان سنة 1936، والحضارة التي أسسها محمد علي ومحمد حسن الصوري، وجريدة الساعة – يومية سياسية – لصاحبها السيد صدر الدين شرف الدين وهؤلاء عامليون ولادة وعراقيون دراسة وجنسية. كما أصدر سلمان الصفواني البحراني جريدة اليقظة، ومحمد مهدي الجواهري العراقي جريدة الرأي العام.
ثم على صعيد الصحافة السياسية فإن جريدة "الأهالي" لكامل جادرجي تنال اهتمام المتأثرين باليسار، وجريدة "الاستقلال" لمحمد حسن كبه لذوي الاتجاه القومي. وقد كان من مشاركة العامليين السياسية، ومعارضتهم لمجريات السياسية أن سحبت الجنسية العراقية وأُخرج من العراق كل من صدر الدين شرف الدين وحسين مروة وأحمد مغنية لمواقفهم من المعاهدة العراقية البريطانية التي وقّعها صالح جبر عن العراق وبيفن عن بريطانيا سنة 1948، ولتأييدهم للمظاهرات التي عمت العراق وسقط فيها ضحايا، قتلى وجرحى، على جسر الرصافة، وسميت بانتفاضة 1948، وتولى على إثرها السيد محمد الصدر العاملي الأصل رئاسة الحكومة ببرنامج إلغاء المعاهدة وإجراء انتخابات جديدة.

التجارب الحوزوية
ساهم العامليون بشكل رئيس بمهام الحوزة والوقوف تجاه كل ما ينال منها وأداء ما كلّفوا به، فكان الشيخ حبيب آل إبراهيم مثلاً وكيلاً للسيد أبو الحسن الاصفهاني في العمارة يوم ركز التبشير البروتستانتي على تلك المنطقة، فأبلى الشيخ بلاء حسناً، وكان لممارساته في العمارة أثر في تحركاتهم عندما اختار بعلبك مركزاً لنشاطه التثقيفي، فلم يكتف بمنطقة بعلبك بل نظم سفرات إلى جبال العلويين وحمص في سوريا، وكان يصدر كراساً في كل شهر باسم الإسلام كما كُلف بعده الشيخ محمد تقي الفقيه، وكلّف الشيخ إبراهيم سليمان لمهمة القضاء بالكويت من قبل السيد محسن الحكيم.
وعندما أصدر عبد الرزاق الحصان كتابه "العروبة في الميزان" يجرد الشيعة من العروبة ويهاجمهم، قامت ثائرة النجف لقمع الفتنة التي أخذت تذر قرونها، وكان دور العامليين هاماً، وبعد أن قامت الحكومة العراقية بوأد الفتنة تشكلت لجنة لمتابعة كل ما يصدر عنه فتنة، قوامها علماء قادة عراقيون وعامليون.

دور العامليين
وعندما أخذت حركة التطوير بالبرامج والأساليب والتأليف مجالها في النصف الثاني من القرن العشرين عن طريق كلية منتدى النشر وجماعة العلماء ومجلة الأضواء ومؤلفات الشهيد السيد محمد باقر الصدر وسواها من الأنشطة التي أوجدت أرضية صلبة للشكل التنظيمي الجديد، وكان مثاله حزب الدعوة وما وضع له من أسس منهجية لتنظيم الجهاز الحوزوي وجهاز المرجعية، والدعوة إلى الإسلام تحت مظلة المرجعية الرشيدة، كانت للعامليين مساهمتهم بالتنظيم والتنظير والتفكير وكان منهم من تأثر بالجو العام الثقافي لمنتدى النشر وجماعة العلماء، ومنهم من ذهب في العمق التنظيمي الحزبي الذي انعكس على كامل المجريات الفكرية والسياسية التي نعيشها الآن، ولبنان إحدى مساحات الانعكاس. وهذا بحد ذاته بحث لا تستوعبه وقفات، حتى أننا نقف على النزعة الحزبية في مؤلفات البعض ومنها المؤلفات الأولى للشيخ محمد مهدي شمس الدين.
ولا يتسع المجال لذكر تراث عائلات عاملية استوطنت العراق من آل الأمين وآل محي الدين وعائلات عراقية واستوطنت جبل عامل مثل آل البلاغي، وهناك سلالة تتوزعها الهجرة العلمية والسياسية، ذهاباً وإياباً بين العراق وبلاد الشام منذ القرن الخامس الهجري، منها آل شرف الدين.
والإجمال أبغي التأكيد على أن الثقافة النجفية هي المتجذّر الأساس في جبل عامل، وما سواه مكتسبات ربما تم تقبّل بعضها فتم تمثُّله وأصبح من النسيج الثقافي ورفض ما عداه.
 

السابق
معن بشور: حين كانت العرقوب بوَّابة فلسطين
التالي
من ذاكرة السيد حسين شرف الدين الثقافة والحركة الطلابيّة والسياسة