السفير: الميقاتيون في السرايا الزرقاء.. وقريباً إلى بيت الوسط!

أنجزت الاستعدادات. صارت السرايا على الأرض. اقترب صوت الأبواق الزاعقة وانفتح الباب الرئيسي. تنحت الدراجات النارية شمالا ويمينا. نزل نجيب ميقاتي من سيارته الفارهة. استقبله «الحريريان» مدير المراسم والأمين العام. بدت الباحة الداخلية تشبه باحة أحد القصور الملكية في بريطانيا العظمى. سجادة حمراء. آلات النفخ تصدح والطبول تضرب والأعلام ترتفع وترفرف. يتقدم «دولة الرئيس» وعلى خطاه من خلفه، ظله.. والأمين العام. ارتدى موظفو السرايا ثيابهم الرسمية. استقبلوا سيدهم الجديد. البعض ممن كان يساير الحريريين، حماية للذات والوظيفة، وهم قلة، كانوا مبتهجين بتحرير السرايا، أما الحريريون وهم الغالبية، فكانوا يتصرفون على قاعدة «مجبر أخاك لا بطل». صافحهم نجيب ميقاتي فردا فردا. عرفوا عن أنفسهم. بعضهم اكتفى بالسلام وبجعل زره، تتوسطه صورة رفيق الحريري، يعرف عنه. البعض الآخر، شد يده واستفاد من الثواني للمديح والاطراء علّ الوافد الجديد يحفظ صورته أو كلماته.
ومن الباحة، الى مدخل الجناح «الرئاسي» في الطبقة الأخيرة من السرايا الحكومية، رجل التشريفات في تيقظ وتأهب دائمين، وقد أنهكه الوقوف مسمّراً على رجليه من ساعات الصباح الأولى. قفازاه ناصعا البياض، لا يشبهان أبداً قفازات زملائه الذين «يقطنون» تقاطعات الطرقات و«يستظلون» أشعة الشمس. إلى جانبه، ثلاثة عناصر أمنية، بلباس مدني، يراجع أحدهم لائحة الزوار ومواقيتهم للتأكد من انتظام الجدول، فيما يتولى الآخران، وبعيونهما، محاصرة البقعة الجغرافية الفاصلة بين المصعد الكهربائي ومدخل البهو الطويل الذي ينتهي بباب ضخم… خلفه اختفى نجيب ميقاتي.
في ذلك الجناح، «تُطبخ» سياسات رئيس الحكومة وتنضج أفكاره على نار لمسات مساعديه. هناك يستقبل زائريه، المرئيين وغير المرئيين. تحيط به مكاتب فريق عمله، ومنه يدخل إلى الجناح الخاص المخصص لإقامته. انه اليوم الأول بعد الثقة، وثمة أسابيع على ولادة الحكومة، ومعها على وصول «أهل الدار» الجدد، إلى السرايا.
لا يتجاوز عدد الوافدين العشرة. توزّعوا في المكاتب، بعضهم اختار الجناح المقابل للجناح الرئاسي، تبعدهم نحو دقيقة ونصف دقيقة عن مكتب «دولته»، وبعضهم الآخر فضّل الانكفاء عن «الأضواء»، و«السكن» في الطبقة الأولى من المبنى التاريخي.
وحدها تلك «الخليّة المصغّرة» هي الطارئة على حياة السرايا وعلى تركيبة ساكنيها، أما البقية فراسخة في مواقعها: الجهاز الإداري في رئاسة الحكومة متوارث. الشيب الذي تسلل إلى رؤوس بعضهم مؤشر كافٍ على «الدهر الذي أكل وشرب» من سنيهم. «أصحاب الدولة» هم المتغيرون، والجهاز من الثوابت. الكثير من وجوهه «حريريّ الهوى»، سواء بالوظيفة التي أمنها رفيق الحريري على مدى «ولايته» أو بالوراثة والسياسة في زمن فؤاد السنيورة وسعد الحريري. يقولون اليوم ان استمراريتهم في العمل «تحكمها المؤسساتية التي يؤمن بها نجيب ميقاتي».
الجهاز الأمني الذي يتولى حراسة مقر الرئاسة الثالثة، من «تركة السلف» أيضاً. لم تتغيّر مكونات عدة، باستثناء تعيين قائد جديد لسرية حرس رئاسة الحكومة العقيد أحمد الحجار، الذي سبق له أن خدم تحت أمرة نجيب ميقاتي وخليفته في العام 2005، بعدما اختار الضابط ـ السلف المغادرة مع «الطاقم الأزرق». حتى أن أولئك الأمنيين الذين يتصدّرون مدخل الجناح الرئاسي، وجوهم مألوفة بالنسبة لقاصدي السرايا، كما الذين يتولون الضيافة… كلهم لم يتغيروا. أيضا الفريق الإعلامي المعتمد في المقر، حافظ على تركيبته، ولم يحاول «الميقاتيون» تطعيمه ولو ببعض «الأصدقاء».
لم يكن دخول ميقاتي الى السرايا يوم الجمعة الماضي هو الأول. يومه الأول، كان بعد اصدار مراسيم تشكيل الحكومة، دخل «دولة الرئيس» السرايا الحكومية بهدوء ومن دون صخب أو تشريفات. على عكس «المستعجل» سعد الحريري، طلب تأجيل مراسم الاستقبال الخاصة برؤساء الحكومات إلى ما بعد نيل الثقة. نزل وقتذاك من القصر الجمهوري الى مكتبه الرئاسي، ليختلي بنفسه بضع دقائق. عارفوه يدركون أن تلك الفسحة لنفسه، هي من أجل تلاوة الفاتحة والصلاة. على يمين مكتبه كتاب القرآن، وجهاز حاسوبه. بعدها استدعى أركان الجهاز الإداري لإلقاء التحية، و«فلش» توجيهاته أمامهم: أنتم أبناء الإدارة، ما يعني أنكم مسؤولون عن سير عملها بمعزل عمن يجلس خلف مكتب رئاسة الحكومة، فالسرايا ليست ملكاً خاصاً… ثم تفقّد جناحه الخاص الذي يكتفي باللجوء إليه أحياناً بين موعد وآخر.
لم يستخدم ميقاتي جناحه الخاص لقضاء ليلة فيه، يفضّل في كثير من الأحيان أن يسرق ساعات الظهر للتسلل نحو فردان لتناول الغداء مع عائلته، والعودة بعدها ربطا باجتماعات أو استقبالات. مرة أو مرتان، قبل الثقة، قصدته العائلة ظهراً لمشاركته مأدبة الطعام في جناحه في السرايا.
في الطبقة الأخيرة، التي استحدثت مع رفيق الحريري، وفي الجناح المقابل، لـ«السرايا المصغّرة»، القاعة المخصصة لجلسات مجلس الوزراء التي يترأسها رئيس الحكومة، والتي من المتوقع أن تشهد اعتبارا من الأسبوع الحالي جلسات عمل وزارية مكثفة، من باب تعويض الوقت المهدور خلال مرحلة تصريف الأعمال التي امتدت عمليا منذ طرح ملف شهود الزور في أيلول 2010 حتى الآن.
يقيم في الطبقة نفسها «حارس» مجلس الوزراء وأمينه العام سهيل بوجي. جاء بالاعارة من القضاء الى السرايا لكنه استطاب الاقامة هناك واستطاب لكل رؤساء الحكومات أن يحتكموا الى وصفاته القانونية وتخريجاته الدستورية ولو اندرج بعضها في خانة مخالفة القانون او الدستور.
في الأيام الأولى، كان بوجي مشغولا بتحديث البريد، لتصحيح اسم «دولة الرئيس»، من سعد الحريري إلى نجيب ميقاتي. أمامه أكثر من 1500 معاملة إدارية عالقة بين زمني التصريف… والتأليف. يحمله التعب أحياناً إلى مغادرة مكتبه، والسير قليلاً في البهو الواسع، متنقلاً بين اللوحات التشكيلية التي ازدانت بها الجدران، متسلّحة ببطاقات صغيرة تعرّف عن أصحابها من أهل التشكيل اللبناني وتواريخ أعمالهم.
هو أول من يلقي التحية الصباحية على نجيب ميقاتي. بين الثامنة والنصف والتاسعة صباحاً، يكون على بابه، بوجه بشوش، متأبطاً كومة البريد لتوقيعه. لا تهزّه الحملات التي تشن عليه لا من الاعلام ولا من حلفاء «سيّد القصر» الجديد. صمته سلاح فتّاك. في لحظات الغضب يلجأ إلى صور حفيداته تحتل خلفية شاشة حاسوبه، «فأنسى الدنيا بمن فيها». تجربته القضائية حصّنته من العواصف. لا حركة أو كلمة قد تشي أنه يعاني من عقدة الاستهداف. يدرك أنّ عمله ذخيرته الوحيدة أمام منتقديه. يشكّل مع فريق عمله دينامو السرايا، ويختال كالديك الممسك بكل المفاصل القانونية، وخفايا علاقات محلية ووصفات سحرية لعلاقة السلطة التنفيذية بعامة الناس لا بل بكل شاردة وواردة في مسار المعاملات الإدارية، بعدما صار متقنا وعارفا بزواريبها و«قطبها المخفية». كما يدرك أن نجيب ميقاتي، لا يمكن له بشحطة قلم أن يضعه خارج السرايا بغض النظر عن الملاحظات التي تسجل عليه سياسياً.
الرجل الذي يحاول أن يفرض هيبته بـ«الكتاب» و«التقاليد» و«المهنية»، لا يبدو أنه موضع «ملاحقة» من «الميقاتيين». سلوكه الإداري، محكوم بنصوص القانون، مع الصديق، كما الخصم، ما يُسقط حالة استغراب مشهد مفعم بالقبلات بين الأمين العام وأحد وزراء الأكثرية الجديدة الذي كان لا يفوت مناسبة لرمي بوجي بالانتقادات اللاذعة.
ويستشهد أحد الموظفين في السرايا بواقعة استشارة رئيس الحكومة لبوجي في عدد من الملفات الحساسة وهو المدرك أن هكذا استشارة لا بد وأن يكون ممرها الالزامي، تغطية سعد الحريري، لكي يعطي «بركته» وفي ذلك حنكة يمارسها ميقاتي الذي يردد أنه عندما يعجب بمن يتابع أحد الملفات يجاهر علنا برأيه فيه.
الضيوف الجدد، الذين سبق لهم أن حطّوا رحالهم في السرايا، في العام 2005، بعد استقالة عمر كرامي وقبل مجيء فؤاد السنيورة، ولو لأشهر معدودة، لم يشعروا أنهم غرباء. سبق لهم أن خاضوا تلك التجربة وتعرّفوا إلى ناسها. يقرّون أنهم محاطون بوجوه «زرقاء»، سواء في الإدارة أو الأمن، استوطنت مع قدوم الحريري الأول إلى المبنى الأثري الذي أشرف على ترميمه وتحديثه، مخلّفاً وراءه بصمات جلية، سواء لناحية الهندسة المعمارية، أو الديكور الداخلي… أو حتى الهيبة. طيفه حاضر في المساحات الشاسعة للسرايا، في الحجر كما في مزاج بعض البشر. في صور مصغّرة ألصقت على النوافذ، أو عانقت رزنامات مكتبية. ولكنّ «المناخ الأزرق» لا يستدعي أبداً نهجاً ثأرياً أو كيدياً. سلوك لا يمتّ إلى شيَم ميقاتي أو إلى تاريخه بصلة، وفق فريقه.
عهد السنيورة يبدو أيضاً مطبوعاً بقوة في ذاكرة أهل السرايا: رجل يدمن العمل، ويستمتع بنقل عدواه إلى المحيطين به. خلال أيام «الحصار» كان يصل الليل بالنهار، أكثر من 18 ساعة من العمل، معمّماً الإقامة الجبرية التي اختارها لنفسه، على كلّ من تواجد في السرايا. وزيرا أو مستشارا أو امنيا أو موظفا. خلية نحل لا تهدأ. ولعل فؤاد السنيورة هو الوحيد الذي استخدم الجناح الخاص بشكل دائم. فيما استضاف جناح الضيوف، الوزراء الذين سكنوا معه. أكثر ما يتذكره أهل السرايا هو ثقافة التقشّف التي كرسها رئيس الحكومة آنذاك على الكبار والصغار، وهناك من يروي على لسان أحد الوزراء الذي خرج يوماً من اجتماع مع «دولته»، شاكياً من مذاق الجبنة، الطبق الثابت على مائدة السنيورة!
لم يصدّق أهل السرايا انضمام السنيورة الى نادي رؤساء الحكومات السابقين، كي يتنفّسوا الصعداء. مع الحريري الابن، كان التعويض أكثر من ممتع. أمضى الرجل ولايته فوق «بساط سندباد»، يستقبل قبل الظهر ضيوفه، ليعود بعدها إلى «بيت الوسط»، ويكتفي أحياناً بطلات تفقّدية للسرايا. دوام إداري روتيني أكثر من مريح.
«انجازات» نجل الشهيد في السرايا واضحة للعيان: ست شجرات زيتون معمّرة تحيط بنافورة المياه من الزوايا الأربع، «زنّار» من ورود «الغاردينيا» البيضاء يحيط بالحديقة، تحديث غرفة المؤتمرات الصحافية لكبار الضيوف… ومهبط خاص بطائرات الهليكوبتر، يُقال إنه استخدمه مرة أو مرتين. وقد دفع الإعلاميون المعتمدون في المقر الرئاسي ثمن تلك «البرجوازية»، ذلك لأن المهبط أنشئ في قسم مواقف السيارات المخصص لهؤلاء، الذين استقبلوا رئيس الحكومة الجديد بشكوى مزدوجة على طوله: نريد مواقف لسياراتنا… وقهوة!
لحظة دخول «الميقاتيين» القلعة المرصّعة بالحجارة، بدا الذهول على محياهم واضحا كالشمس: الكثير من المكاتب بلا أثاثها، شبكة الانترنت قُلعت من جذورها، خطوط الهاتف مفصولة بين الطوابق، وحتى فناجين القهوة ندُر وجودها. كثيرة هي وجوه الاختلاف بين الأمس واليوم: «حريريون» تعاطوا مع السرايا وأهلها، وكأنها ملكية خاصة، فالأب والابن «ووريثهما السياسي»، بالاعارة، تربّعوا على عرشها لسنوات منذ ترميمها. الاستثناء كان مع سليم الحص، وعمر كرامي ونجيب ميقاتي الذين مرّوا من هناك بلمح البصر… جدار عازل يفصل بين «الحاشية الحريرية»، لا سيما في زمن الحريري الابن، وبين الفريق الإداري. وحده سهيل بوجي كان يتولى صلة الوصل. جيش من المستشارين والمساعدين انتشروا في الطوابق، لدرجة التنافس على بعض مكاتب الجناح الرئاسي، وتحويل احدى ديوانيات الاستقبال إلى مكاتب مصغّرة على طريقة الشركات الضخمة. ويبدو أن الأمين العام لمجلس الوزراء يدرس امكان إعادة القديم إلى قدمه.
ذهنية مختلفة كلياً، واحدة «برجوازية» بامتياز، ترسم حدودا للعلاقة بين «سيّد السرايا» وموظفيها، تتحصّن خلف أسوار الإجراءات الأمنية والحمايات الخاصة التي كانت تتغلغل في مقر الرئاسة الثالثة. وواحدة استيعابية، قوامها الليونة في التعاطي بين الرأس والجسم، تحترم النظام المؤسساتي والتراتبية، تعتمد على سياسة الاحتواء، والنفس الطويل، كما يرى أركانها، وإجراءاتها الأمنية بحدودها الدنيا، بعدما انتفت الحاجة إلى عناصر الأمن الخاص.
السرايا التراثية بمداخلها الأربعة، تستقبل كبار زوارها، في البوابة الجنوبية الرئيسية، بتمثال للرئيس الشهيد رفيق الحريري شيّد في «زمن تصريف الأعمال» على أرض تابعة لبلدية بيروت، وتنبّههم فور بلوغهم المدخل المؤدي إلى الجناح الرئاسي بأنه «لو دامت لغيرك لما اتصلت إليك»… وعلى الرغم من ذلك، يتعامل «الميقاتيون» مع «السرايا الزرقاء» بواقعية، «الصراع السياسي وقف على الباب». معادلة يُقال إنها تنطبق على قدامى المقر، كما المستجدين.
ثمة فارق بين دخول السرايا بعد رفيق الحريري في العام 2005 وبعد سعد الحريري في العام 2011. قبل ست سنوات شعر ميقاتي بهيبة المكان وبالوحشة التي فرغها زلزال 14 شباط وبعظمة الرجل الذي خسره لبنان. اليوم ربما يتملك ميقاتي شعور مختلف. شعور يوحي بأن الفراغ الحكومي عمره فعليا سنة ونصف السنة!
نجيب ميقاتي في السرايا رئيسا للحكومة وقريبا إلى بيته الجديد في وسط العاصمة.. فهل سيقرر مسؤول الإعلام في السرايا الزميل فارس الجميل اعتماد صيغة «بيت الوسط» أيضا؟

السابق
البناء: إسرائيل» تُمعن في سرقة ثروة لبنان البحرية وتساؤلات حول موقف المجتمع الدولي من التعدّي افتتاح اللقاء التشاوري في دمشق ومئات الآلاف يرفعون أطول علم في اللاذقية
التالي
السفير: فصل جديد من الصراع يُفتح.. ولبنان يستعد لمواجهة العدوان إسرائيل تنتهك الحدود والحقوق البحرية اللبنانية