يحمر الشقيف التي تبني «جذورها» بدلا من الإستثمار المالي

تخلت النبطية عن ثوبها الريفي، فهجرته من معظم بيوتها القديمة، وأدخلت إليها حداثة البناء والمجمعات الكبيرة. موجة إقتصادية هجمت على معظم شوارعها, فارتفعت الأبنية الزجاجية، وكثرت المحال التجارية بشكلها ألأوروبي، حتى بيوتها أصبحت نسخات متطابقة مع المشاريع الإسكانية التجارية. في المقابل إشتد التمسك بهذا التراث والفن القديم في الضيع المجاورة، وعاد البيت الريفي القديم ليظهر من جديد بقرميده الأحمر، وخصوصا في بلدة يحمر الشقيف.
يستقبلك البيت الأول عند خراج بلدة أرنون، غرف ثلاثة متجاورة، يغطيها قرميد أحمر، عند الباب الرئيسي ترى القناطر القديمة، التي حرص صاحبها على ألا يغير شكلها القديم، بعدما أعاد تجديده. حتى نوافذ المنزل أخذت من خشب “القطران” وعقدت تصاميم حديدية دفاعا لها، يحميها من مشاغبات الأطفال في الضيعة.
أمام المنزل حديقة تختال ألوانها بأصناف أشجار الفواكه، من تفاح ودراق ولوز، الى الزراعات الخضرية كالبقدونس والكزبرة والاهم البصل الأخضر، أما نبات دوار الشمس فيعيد إلى الحياة رونقها كلما أقترب الغروب ومال باتجاه الشمس, التي تعكس ألوان المغيب على زجاج المنزل الملون.
النموذج الثاني في وسط ضيعة يحمر الشقيف. تحكي قصته حكاية تغريب البيوت القديمة في الضيع، وعودتها الحالية إلى الأصالة. البناء الأول في بيت العائلة كان من الصخر القديم، وعندما جاءت موجة الحداثة إلى يحمر، قام معظم الناس بطلاء المنازل، حتى منازل حجر الصخر: “إخترنا اللون الازرق النيلي لمنزلنا”، تقول صاحبة المنزل الملقبة بـ”أم ناصر”: “حتى أصبح لا يعرف أنه من الحجر الصخر”.
في العام 2005 قرر ناصرعليق، إبنها ورئيس الجمعية التعاونية الزراعية في يحمر الشقيف، بناء منزل صغير في بلدته. فالعائلة يصعب عليها مشوار الضيعة من بيروت، بسبب عدم وجود منزل خاص بنا: “قررت أن يكون صغيرا جد، يتألف من غرفتين ومطبخ، ومن الحجر الصخري القديم، جمعت أول خمسمئة حجر من بلدة دبين الحدودية، بمبلغ خمسمئة ألف ليرة لبنانية، وهذا السعر كان خياليا”.
جاء عدوان تموز ولم يباشر عليق بناء منزله بعد, وبعد تضرر الكثير من المنازل القديمة في يحمر من العدوان، بدأ يشتري أعدادا كبيرة منها من بلدات الخيام والقرى الحدودية بأسعار متهاودة إلى حدود الدولار ونصف الدولار للحجر الواحد، وبدأ بتجميعها, وبعد وقت قصير قرر أخوه نزار مشاركته الفكرة، والأمر نفسه انطبق على بيت العائلة المدمر، فتمّ تصميم منزل حجري مؤلف من ثلاث طبقات، يحفظ الطابع التراثي ويتميز بحجر صخري داكن اللون ودرج يتقدم المنزل بطابع هندسي قديم.
النموذج الثالث أعيد بنائه بعد عدوان تموز: يحافظ مالكه إسماعيل اسماعيل على أهميّة بيوت الحجر القديمة وجمالها التراثي والخارجي، إضافة إلى ما تتيحه للمنزل من دفء في الشتاء وبرد في الصيف، لأن عرض الحائط يصل إلى حدود المتر ونصف المتر أحيانا، ما يشكل حاجزا أمام تغييرات المناخ.
وقد حافظت العديد من البيوت القديمة في يحمر على أصالة حجارتها وطرق بنائها، مع إجراء بعض التحديثات عليها، بما يتوافق مع الطابع الريفي، إلا انها رفضت أن تبيع حجارتها مهما ارتفعت الأثمان.
يبقى البيت الأكثر تميزا ذلك العائد إلى الدكتور بسام عليق، الذي بات قصة على ألسنة معظم أهالي البلدة. فموقعه متميز يطلّ على نهر الليطاني وقلعة الشقيف. بدأ بنائه منذ منتصف العام 2004، بالحجارة الصخرية القديمة، التي جمعت من العديد من البلدات الجنوبية، الخيام، مرجعيون, كفرتبنيت والطيبة والنبطية.
في محصلة نهائية لسبعة آلاف حجر، تراوح سعر الواحد منها حول الدولارين للحجر الواحد، و نتيجة لمساحة البيت الكبيرة، إحتاج الى بعض المئات الاخرى من الأحجار، التي عمل على “تقصيبها” بعض العمال، في كل من بلدة يحمر وزوطر الشرقية والتي تمتاز بنوعية الصخرالقاسية.
يحتاج ” تقصيب” أربعة أحجار على الطريقة اليدوية يوما كاملا، في وقت يصنع معمل أحجار الباطون المئات أو الآلآف يوميا، ما جعل مهنة “تقصيب الصخور” تندثر سريعا، حتى اختفت من معظم مناطق الجنوب، وبقيت في بعض المناطق الجبلية مثل دير القمر أو بيت الدين، حيث ما زالت تلاقي اهتماما بارزا من قبل أبناء المنطقة، في اعتمادهم عليها فلبناء مجمعاتهم السكنية وجدران الطرق العامة.
بلدة يحمر، وهي واحدة من من قرى المواجهة التي لم ترحمها أيا من الحروب التي مرت على لبنان، هذه البلدة شهدت “صحوة الإنتماء”، هذا من خلال العودة إلى الجذور، التي تفسر تعلق ابناء بلدة يحمر بهذا الطابع الريفي، خصوصا أن الاحتلال حرمهم ضيعتهم فترة طويلة, ما يبررالمبالغ المالية الكبيرة التي يصرفونها في بناء منازلهم، ولا تستثمر في مجالات أخرى قد تدر عليهم أرباحا.

السابق
هكذا ستتعامل الحكومة الجديدة مع الفلسطينيين
التالي
LBC: وصول وفد من المحكمة الدولية إلى مقر القاضي ميرزا