مايكل جاكسون.. رجل في المرآة

"نزلت السيدة العذراء حاملة يسوع بين ذراعيها إلى الأرض لزيارة دير، وقف الرهبان شديدي الفخر صفاً لتكريمها، ألقى أحدهم قصائد، أخرج لها آخر كتاباً مقدساً مزخرفاً، وعدّد آخر أمامها أسماء القديسين. في آخر الصف وقف راهب متواضع لم تتح له فرصة الدراسة مع حكماء زمانه. كان أبواه من البسطاء العاملين في السيرك. عندما وصل دوره أراد الآخرون إنهاء مظاهر التكريم خوفاً من الإساءة إلى صورة الدير، لكنه أراد هو أيضا إظهار حبّه للعذراء، فأخرج من جيبه، محرجا، وشاعرا بنظرة إخوته المستهجنة، بضع برتقالات وأخذ يرمي بها في الجو ويلتقطها مثلما علّمه أبواه، عندها فقط ضحك يسوع، وصفق بيديه فرحاً. مدت العذراء يديها إلى ذلك الراهب، وعهدت إليه بطفلها لبعض الوقت".
"تاكسي.. حديث المشاوير" لخالد الخميسي، نقلا عن كتاب "مكتوب" لباولو كويلهو

Kindness ….in your Eyes
I guess…. you heard me cry
مطلع أغنية "من يسوع إلى طفل" لجورج مايكل

كان ذلك في الثمانينات، في غرفتنا الحميمة ذات المقاعد المخملية وديكور الحائط المشجر واللوحة الكبيرة المصنوعة من قماش وبري، وكنت أنا في الخامسة من عمري، أتابع على التلفاز بشغف رجلا ذا بدلة حمراء جلدية يرقص بخفة شديدة مع جثث ترتدي ملابس ممزقة. رغم ما للأغنية من طابع رعب جلي، إلا أنها أعجبتني. شعرت بأنها تقول لي شيئا ما. سميتها بـأغنية "المقبرة" وسميت المطرب بـ"أبو بدلة حمرا". وفي الليل، حينما ينام الجميع، كنت أقف محدّقة في شاشة التلفاز السوداء، لعل "أبو بدلة حمرا" و"جثثه" يأتون إليّ. في الأيام التالية كان يطل "أبو بدلة حمرا" على الشاشة فجأة، فيتصايح من في البيت مرددين – على ما يبدو – اسم هذا الرجل الساحر: مايكل جاكسون، مايكل جاكسون.. كتبتُ اسمه على كل حائط وعلى كل ورقة تقع في يدي، لأني عرفت بأننا سنكون أصدقاء.

"كنت ذات يوم في الكنيس، وكان بجانبي طفل عمره خمس سنوات يرتدي قبعة سوداء ويدعو الله: يا إلهي أعد مايكل مرّة أخرى".
أحد المعلقين في موقع "يوتيوب" على كليب لمايكل جاكسون

بدأ هوسي بالأغاني الأجنبية بإرادة ذاتية في المرحلة الإعدادية في التسعينيات، بكل ما يحمل ذلك من مجازفة في بيئة تدينت فجأة، ثم قرّرت التوقف عن التنفس "الفني". وفي المدرسة كوّنت شلة من المعجبات بـ"مودرن توكنغ" و"تيك ذات" و"ويتني هيوستن"، وطبعا بمايكل جاكسون. وذات يوم سقطت صورة الأخير من كتاب الرياضيات، ولن أنسى النظرة التي رمتني بها معلمتي مصحوبة بالسؤال إياه: كيف تحتفظين بصورة هذا الكافر في كتابك؟ ألا تعرفين أنه من أهل النار؟ وكانت المرة الأولى التي أسمع بها عبارة كهذه، حتى إنها أثارت في نفسي مشاعر كوميدية، وكان الخاطر يتردد في سري: مايكل يدخل النار! إذاً أين ستدخل مدرّستي التي صفعت صديقتي اليتيمة التي لم تحضر أدوات الرسم بالزيت الباهظة الثمن؟

"كانت هناك أيام قضيت فيها أوقاتاً ممتعة مع إخوتي نتعارك بالوسائد وأمور أخرى، ولكني كنت دائما أبكي بسبب الوحدة".
مايكل جاكسون في إحدى المقابلات

مايكل كان صديقا يأتي على الموعد دائما في طفولة ومراهقة استدعت الكثير من مبررات الهروب والوحدة والانزواء في أركان البيت الباردة. كنت آخذ صورته وهو مراهق بشعر أجعد وابتسامة تكشف أسنانه البيضاء، في محاولة بائسة للتظاهر بالسعادة. ذكّرني هذا بفتاة أعرفها تماما، وعندها كنت أبكي من دون سبب.

وأمام المرآة حكيت لمايكل كل شيء. حكيت له عن شعوري المؤلم بالوحدة رغم عائلتي الكبيرة، وعن عجزي في التعبير عن مشاعري للذين أحبهم، وعن مكايدات أخواتي لي وأنا أضعف من فراشة، وعن سريري الذي كنت أبلله رغما عني، وعن خجلي من تأتأتي وأشياء أخرى كانت تنخرني باستمتاع وبلا لحظة توقف. ولم يتجاهل مايكل شكواي كغيره، بل كان سرعان ما يردّ علي، وإلا لماذا غنى "لست وحيدا" و"هل رأيت طفولتي" و"هل ستكون هناك"، بل وحتى "إنهم حقا لا يهتمون بنا"؟

مايكل ليس لعشاقه مجرد مغن مبدع، ولا حتى أفضل راقص عرفته مسارح العالم. مايكل كان يهب الأمل للملايين، مايكل "رجل في المرآة" بالفعل، كل ما عليك فقط هو أن تحدق في ذلك السطح المصقول اللامع متسلحا بأكبر قدر ممكن من الخيال والألم، وستجده أمامك يبتسم بلطف ويقول: لا عليك، أنا أيضا مررت بهذا، أفضل الأوقات قادمة لا محالة.
كبرت كثيرا، وكونت صداقات رائعة – أو هكذا أظن – وأصبحت علاقتي بأسرتي أفضل بكثير – أو هكذا أظن أيضاً – ولكن في كل مرة أنظر إلى المرآة أشعر بحنين كبير للبوح، وابتسم رغما عني شاعرة أن الحياة بخير، إلى أن جاء 25 حزيران/ يونيو 2009.

قبل أسابيع، وجدت صفحة في "الفايسبوك" بعنوان "ما زلت أتذكر أين كنت حين سمعت أن مايكل جاكسون توفي". المعجبون والمعلقون في الصفحة كانوا قرابة نصف مليون، وكانت إجاباتهم كالتالي: كنت في المدرسة، كنت نائمة، أخبرني صديقي على الهاتف، وصلني الخبر كـ"مسج" من موقع إخباري كنت قد اشتركت فيه.. الخ. وعندها اكتشفت إني كنت مختلفة عن هؤلاء الآلاف جميعا، وحدي أنا كنت الأقرب إلى مايكل، كان هو في السماء وأنا أيضا، في رحلة ليلية إلى القاهرة، لم أكن يوما بكل هذا القرب منه، وأذكر تماما كيف بكيت بشدة من دون سبب لدرجة لفتت نظر ركاب الرحلة 961 على الخطوط المصرية، وما إن وصلت الفندق حتى عرفت الخبر من قناة أسترالية زفته لي أليما وقاسيا، ومن يومها لم أستطع التحديق في أي مرآة.
مايكل، أعلم تماما أنك هناك بخير، أرجوك، تمنّ لي أن أكون كذلك.

السابق
54 منعطفاً قاتلاً في مرجعيون
التالي
تحول-5 تتوج بتهديدات بشن عدوان يستهدف الجنوب