تركيا وخطر التفكك السوري

– دعونا نتذكر ان النجاحات التركية في السنوات السبع المنصرمة في العالم العربي، النجاحات الاقتصادية والسياسية، حصلت اساسا مع الديكتاتوريات العربية وليس مع الديموقراطيات الناشئة باستثناء الحالة العراقية التي بقيت معلقة امنيا من وجهة نظر الامن القومي التركي ولكنها انتجت وضعا باهرا للمصالح الاقتصادية التركية في الاقليم الكردي تجارةً ومقاولاتٍ واستثماراتٍ كما في العديد من المناطق العراقية الاخرى حتى البصرة في اقصى الجنوب.
– في سوريا كان النجاح التركي شبه كامل مع النظام في الامن والتجارة والاستثمارات وضاعف هذا النجاح شعور النظام السوري العميق بالامان نتيجة السياسة المتزنة التي اتبعتها الدولة التركية حيال الصراع المذهبي الذي غذاه التنافس الايراني – السعودي، في فترة كان فيها الرئيس بشار الاسد يواجه نتيجة الهجوم الديبلوماسي الاميركي الفرنسي عليه اواخر عام 2004 في لبنان، والذي ادى عمليا الى اخراج الجيش السوري من لبنان ربيع عام 2005 بشكل مهين، كان الاسد يواجه اخطر تهديد مصيري لنظامه حتى ذلك الحين فجاء الموقف التركي ليشكل تغطية لا تقدر بثمن في نقطة ضعف مهمة هي طابع النظام الاقلّوي.
– لقد جعل التوجه التركي المبني على قوة اقتصادية متقدمة عن المحيط ليس العربي فقط بل القوقازي والبلقاني ايضا من تركيا لاعبا غير معلن في مناطق مهمة داخل بعض دول جواره الجنوبية اي بمعنى ما لاعبا في تركيبتها الداخلية. فكما ان المساهمة في تشكيل تيار انتخابي رئيسي في الانتخابات العراقية الاخيرة عبر ما سُمي "القائمة العراقية" التي ارادتها سوريا والسعودية وتركيا تعبيرا عن عودة قوية للنفوذ السني العراقي تحت طربوش زعامة شيعية مضادة لايران هي رئيس الوزراء الاسبق اياد علاوي، كما ان هذه المساهمة التركية اظهرت النفوذ الخاص لتركيا في مدينة الموصل، فان الانفتاح السوري التركي غير المسبوق اقتصاديا مع الغاء التأشيرات بين البلدين قد اظهر "عودة" نفوذ تركي على البورجوازية الحلبية الجديدة والتقليدية حتى لو ان جزءا من هذه البورجوازية الصناعية قد تهددت انماط انتاجه وقدرته على الاستمرار امام الصناعات التركية المتقدمة مما استدعى دعما ماليا غير عادي من الدولة السورية لمساعدة الصناعات السورية المتخلفة على التطوير او التغيير كما نقل لي خبير اقتصادي لبناني التقى الرئيس الاسد وسمع منه ذلك مباشرة.

خلاصات

تواجه انقرة اذن معطيات هائلة الوقع والتأثير في الوضع العربي الجديد:
-1 دور اميركي قيادي في الربيع العربي. اقول ذلك خلافا للرأي الذي يتردد ببغائيا احيانا عن الارتباك الاميركي هنا او هناك. في تونس لم يحصل اي ارتباك، في مصر كان نوعا من التردد الطبيعي في رصد العملية الثورية واكاد اقول "ادارتها"، في ليبيا نوع من تضارب مصالح وحساسيات بين القوى الكبرى خصوصا مع الاندفاع الفرنسي بسرعة قصوى تمليها ايضا حسابات تعويضية عن التلكؤ الفرنسي شبه الفضائحي حيال الانتفاضة التونسية والصراع على دولة نفطية. الارتباك الفعلي والمبرر كان تركياً. واشنطن تبني صلات مع نخب عربية جديدة بينما تركيا امامها الكثير لبنائه في هذا المجال رغم رصيد حزب العدالة والتنمية الجدي في اوساط حركات الاخوان المسلمين. لكن تاريخ الجمهورية التركية لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية يشير الى ان النخبة التركية الحاكمة سيتعزز لديها اتجاه توطيد العلاقة مع الولايات المتحدة الاميركية والتي تنفتح امامها آفاق جديدة في المناخ العربي الثوري الجديد وتحديدا في المحيط القريب كالعراق وسوريا.
-2 "عودة" مصر الاكيدة في التأثير رغم ضخامة مشاكلها الداخلية. وأول مظاهر الدور الاقليمي كان المصالحة الفلسطينية التي تحصل بتأثير ليس AKP وانما بتأثير الاخوان المسلمين المصريين الآتين الى السلطة قريبا ولو على الارجح بصيغة ائتلافية. باختصار مصر معطى يجب ان يحسب حسابه تعاونا وتنافسا في ادارة الدينامية التركية في العالم العربي وافريقيا حتى لو ان الثورة المصرية لم تحرر مصر الى الآن من كونها عملاقا اقليميا معطوبا.
-3 خطر التفكك السوري بما يؤدي الى تحديات التفكك الكردي خصوصا في الشرق الشمالي السوري واتصال ذلك باخطر بند في الامن القومي التركي. وهذا ما قد يفتح على احتمال اضطرار تركيا الى تدخل عسكري يعقّد الامور حتى مع الديموقراطيات الجديدة. فقد يتحول انشاء حزام امني داخل سوريا اياً تكن مغرياته على المدى القصير الى خطأ تركي استراتيجي يعيد تجديد المخاوف السابقة للنخب العربية وهواجسها من "الاطماع" التركية.
-4 ثبات ايجابي في العلاقات التركية الايرانية كان مضبوط السقوف تاريخيا ويرتكز منذ عقود على مصالح اقتصادية ضخمة عززها النمو "النموري" للآلة الصناعية التركية التي تنفق على نفسها عشرات المليارات سنويا اي على حاجاتها التطويرية والنفطية يحتل فيها استيراد النفط والغاز من ايران حيزاً مهماً. لكن ينبغي مراقبة تطور السياسة التركية حيال سوريا التي قد يؤدي اي تدهور خطر فيها الى انعكاسات سلبية على العلاقات بين ايران وتركيا. بسبب ما يعنيه استراتيجياً لايران سقوطُ النظام في سوريا؟
5- علينا ان لا ننسى الارتباط الوطيد بين الحراك الديموقراطي العربي وبين الحراك الديموقراطي الايراني زمنا وبنية، وهذا يضع النظام الايراني في مزيد من الانكفاء الداخلي و الاقليمي ومع تراجع ما سُمي "الهلال الشيعي" ستكون حاجة ايران اكثر الى ثبات العلاقة مع تركيا ولكن تركيا ستخسر نسبيا مساحة للمناورة والتوازن بين ايران هجومية واميركا القوة المهيمنة في الشرق الاوسط.

-6 خاتمة

قد يكون ما يحدث الآن في العالم العربي اكبر فرصة عربية منذ قرن، على الاقل منذ عام 1948 عندما فتح تأسيس اسرائيل المجال لقوى جديدة يومها بقيادة المؤسسات العسكرية العربية، نقل مركز الثقل في الدينامية العربية من الاولوية الديموقراطية الى الاولوية الوطنية ممثلة بالقضية الفلسطينية. لقد جرى تدمير انجازات العصر الذهبي لليبرالية العربية الذي امتد على مدى معظم النصف الاول من القرن العشرين.
لكن الربيع العربي ينفجر دون ان يترافق مع حل للصراع العربي – الاسرائيلي وتحديدا الفلسطيني – الاسرائيلي. وهذا يخلق وضعا غير مسبوق سيكون من التسرع بل الخطأ الفادح توهم ان الانشغالات الداخلية العربية ستؤدي الى تهميش القضية الفلسطينية، وهذا سينم عن سوء فهم عميق لثقافة المنطقة ومكوناتها لدى حركات الشباب التغييرية الجديدة بما سيجعل الديموقراطيات العربية حاملة معها مفاجآت وطنية كبيرة. خصوصا بعدما ثبت ان اليمين الاسرائيلي، الذي يحظى بتأييد الاكثرية الاجتماعية الاسرائيلية، لا يريد السلام.
اعثر دائما في مكتبات اسطنبول للكتب الصادرة باللغة الانكليزية على ترجمات عن اعمال جادة لباحثين اتراك في علم الاجتماع، واقول لكم بدون اي مبالغة ان العديد من محتويات هذه الكتب المتعلقة بالطقوس الدينية لبعض الطوائف يمكن ان يُحدث نشرها في اسواق بيروت ودمشق وبغداد باللغة العربية او الانكليزية او الفرنسية فتنة دموية لانها تُعتبَر من الاسرار، او كما وصفتُها مرة بانها تتعلق بـ"شعوب سرية" بينما وجودها في متناول الجمهور في مدن تركيا امرعادي جدا، لاسيما عندما تكون في اعمال باحثين رصينين. ولهذا الفارق تفسير واحد: انه الحداثة التركية التي تتقدم في كل المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية.

لماذا اروي هذا؟

ارويه لأستنتج ان الضمانة العميقة لقوة تركيا هي هنا: تطور البنية الداخلية في مواجهة تحديات الجيوبوليتيك. لذلك ايا تكن النجاحات الخارجية فان تقدم القوة الناعمة التركية اي "النموذج العلماني التركي" في العالم العربي كما المسلم سيعتمد على قدرته على تقديم حل ديموقراطي اولا للمسألة الكردية وعلى مستوى آخر استيعاب الدولة للمسألة العلوية. وهما مشكلتان كبيرتان جدا لان كلا منهما بنيوية في النطاق المتعلق بها من تركيب الدولة والمجتمع التركيين.

جهاد الزين

السابق
لبنان تسلم نسخة من القرار الاتهامي من المحكمة؟
التالي
اللبناني سامي كنعان الرئيس المُرتقب لبلدية جنيف