من يحسم في سورية … تركيا أم إيران؟

إذا كان لأي منطق أن يبدأ بالارتسام في الأزمة السورية، فلا بد من أن يشرع النظام في المقلب السياسي، المنتظَر منه داخلياً وخارجياً، والقادر وحده على «الحسم»، لأن إنجازات الأجهزة الأمنية برهنت ما تستطيعه، ولو بصعوبة، بعدما سقطت حواجز الخوف والصمت، وبعدما أقامت تضحياتُ المواطنين السوريين ووسائلُ الإعلام الحديث وبعضُ المواقف الدولية، نوعاً من التوازن مع القوة المفرطة التي استخدمها النظام.
في الأيام الأخيرة دخلت التداولَ فكرةُ استدعاء قوات دولية الى المناطق الحدودية، مستنداً إلى نزوح المدنيين الى الدول المجاورة، لا سيما تركيا ولبنان والأردن. ولا يبدو هذا التدبير متاحاً أو عملياً إذا كان له ان يكتسي أو يخفي أبعاداً سياسية، لكن ثمة مشكلة إنسانية ستزداد إلحاحاً إذا كان للأزمة أن تطول من دون أي أفق حل، والأحرى بالنظام أن يبدي الاهتمام بها ويجد ما يناسبه من وسائل لمعالجتها. وإذا لم يبادر، فإنه سيتيح لأطراف أخرى استخدام هذه المشكلة، بعضها بدوافع طيبة وبعض آخر بدوافع مشتبهة.

صحيح أن المدخل الإنساني قد يفضي إلى «تدخلات» أخرى متنوعة، سواء للتحقيق في حالاتِ انتهاكات عدة باتت معروفة وموثَّقة، أو للضغط على «وتيرةٍ» و «مضمونٍ» حدَّدهما النظام لـ «الإصلاحات» ولا يزالان مجهولين، مثلهما مثل الاصلاحات ذاتها. لكن النظام سمع ويسمع كل يوم، من أصدقائه وممن يعتبرهم أعداء ومتآمرين، دعواتٍ تحثه على أخذ زمام المبادرة. ومن حق أي دولة رفْضُ التدخل الخارجي في شؤونها، إلا عندما تصبح هذه الدولة مصدراً للخطر على شعبها، فهذا كان مرفوضاً دائماً، حتى أيام الحرب الباردة، وهو مرفوض اليوم بالنسبة الى ميانمار وكوريا الشمالية وايران، كما بالنسبة إلى إسرائيل في تعاملها كدولة احتلال مع الفلسطينيين، بمعزل عن فاعلية المجتمع الدولي أو قصوره في ملاحقة هذه الدول ومحاسبتها.
في أي حال، تَعتبر سورية نفسَها دولة ذات دور إقليمي، ما يستتبع أنها معنية بمحيطها وتوازناته. وإذ أنها اختارت (أو اضطرت) طوال العقد الماضي الابتعادَ عن الجمود العربي، وعمّقت تحالفها مع ايران ثم انتهجت انفتاحاً مع تركيا ما لبث البَلَدان أن اصطلحا على اعتباره «شراكة إستراتيجية»، فإنها وجدت أو ستجد نفسها مدعوة الى تدبر أزمتها الداخلية على نحو يحفظ لها أحد هذه الدعامات لنظامها ولدورها.
كان آخر ما توقعته سورية، أن يكون ما نأت بنفسها عنه هو تحديداً ما ستأتيها منه الرياح والعواصف، فالعالم العربي يمرّ بحراك على المستوى الشعبي، بعضه أنجز خطوات وبعضٌ آخر في صدد أن ينجِز، وثمة بعضٌ ثالث سيأتيه الدور بشكل أو بآخر، حتى لو لم يشهد بالضرورة انتفاضات شعبية. وفيما سجّل العالم أن أهم ما في هذا الحراك أنه نابع من داخل المجتمع، ورأى فيه ظاهرة طبيعية وصحيّة، ولو متأخرة، فإن الأنظمة التي تُحجم عن التعامل معه، أو تعمد الى صدّه، تعرِّض أمنَها واستقرارها وتماسكها وهيبتها وشرعيتها لاختلالات غير مضمونة النتائج.
لم يكن هناك أي سبب يبرر الاعتقاد ببقاء هذا الحراك خارج حدود سورية، فاستبعاده يساوي استبعاد أن يكون هناك شعب في هذا البلد. أما وقد حصل، فالعبرة الآن في المآل لا في جذب العربة الى الوراء. بقي العرب، حكوماتٍ وجامعةً عربية، ساكتين وسلبيين إزاء ما تشهده سورية، فهم لا يتدخلون لئلا يزيدوا الطين بلاًّ، أضف إلى أن كل نظام فيهم يواجه مشاكله، ولا نصائح عنده يقدمها للآخرين. ليس في هذا الوضع ما يمكن أن يساعد، رغم أن دمشق قد تكون مرتاحة إليه، لكن الرأي العام العربي الذي يكنّ لشعب سورية عاطفة تاريخية خاصة، لا يتعامل بهذه اللامبالاة إزاء ما يحصل، بل بألم وسخط، والأكيد أنه يتعاطف عموماً مع «ممانعة» سورية، لأنها متروكة عربياً في مكان ما بين الحرب والسلم، لكنه لا يفهم لماذا تَحُول «الممانعةُ» ضد العدو دون أن يكون النظام متصالحاً مع شعبه.
أما تركيا وإيران، فاعتمد عليهما النظام، الأولى التي أمّنت له متنفَّساً من العزلة الدولية، خصوصاً منذ 2005، والثانية يعتبر أنه حقق معها توازناً إستراتيجياً في مواجهة اسرائيل مكّنه من مواصلة الإمساك بأوراقه الإقليمية، رغم مشاطرة إيران إياه اللعب بها، وإنْ خذلته، كما في العراق مثلاً.
مع هاتين القوتين الإقليميتين، شعرت سورية النظام بأنها استعادت عافيتها، فكلاهما استثمرت فيها وراهنت عليها في مجالات شتى: تركيا للانفتاح شرقاً بحثاً عن أسواق لاقتصادها المنتعش، وكذلك عن توسيع لدور محوري يتيحه موقعها، وايران لتعزيز نفوذها الإقليمي والمضي في «تصدير الثورة» وتأمين الرعاية لـ «حزب الله» في لبنان. ولا شك في أن الدولتين تراقبان بقلق ما يجري في سورية، وتتنازعهما تحليلات متناقضة لما يمكن أن يؤول اليه نظامها، إذ تدركان أن مصالح كثيرة لهما باتت الآن على محكّ هذه الأزمة.
ومن الواضح أن ايران تنظر باستياء الى تأخر سيطرة النظام على الوضع، بل إنها تتوجس أكثر من نيات الإصلاح التي يبديها ويكرر التزامَه تحقيقَها، وإذ انبرت لتعيين نفسها ملهمةً للثورات العربية، إلا أنها لا تملك بالنسبة الى سورية سوى نصح النظام – إنِ احتاج النصحَ – بأن يواصل الشيء نفسَه، وتشجيعه على الذهاب في الخيار الأمني الى أقصاه، مسترشِدة لا بثورتها هذه المرة، وانما ببطش «حرس الثورة»، بالانتفاضة ضد تزوير الانتخابات الرئاسية قبل عامين، وأيضاً بالقمع المستمر بلا هوادة والعزل التام لزعماء المعارضة الإصلاحية.
أما تركيا، فلديها مقاربة مختلفة تماماً، تستند الى معايشة الإسلام الوسطي مع معايير الديموقراطية الغربية، فباستثناء تعاملها الأمني الفظ مع إرث المشكلة الكردية، الذي تنظر اليه كـ «تمرد» يهدد وحدتها أرضاً وشعباً، استطاعت تركيا بحكومتها الحالية إرساء تجربة حكم ديموقراطي مستقر يُفترض أن يبلور في مرحلته المقبلة، بعد الانتخابات الأخيرة، إصلاحاً دستورياً يضع القضية الكردية على طريق الحل الوطني الخلاّق. انطلاقاً من هذه التجربة، ومن تأييد لا لَبْسَ فيه لأهداف الثورات العربية، شرعت تركيا باكراً جداً، وقبل أيام من التظاهرة السورية الأولى، تدعو النظام إلى قيادة التغيير، لا أن يَدَعَ التغيير يقوده. كانت تركيا تعاملت مع النظام رغم أن لها رأياً في سلوكياته وممارساته، لكنها لم تفصح عن مواقفها إلا بعدما وقعت الواقعة وأصبحت لديها مصالح كثيرة على الأرض.
لوهلة بدت «الشراكة الإستراتيجية» ممكنةً بين أطراف الثلاثي «التركي – السوري – الإيراني»، أما الآن، فاختلفت الحسابات تماماً. صحيح أن براغماتية كل منها كفيلة بالإبقاء على المصالح، لكن الفارق بالنسبة الى ايران أنها لا ترى مستقبلاً لمصالحها مع الشعب السوري، الذي اختزن في ذاكرته أنها باركت تقتيل أبنائه، فهي – لذلك – ستكافح لكسب رهانها على النظام وحده. أما تركيا، فتراهن على حكم مدني منتخَب، وستعمل على نقل النظام من مرحلة الرصاص الى مرحلة الإصلاح، التي ستؤدي بشكل أو بآخر الى تغييره، أو على الأقل الى تغيير لمصلحته ومصلحة الشعب معاً. وبالطبع، إن الصراع التركي – الايراني على سورية ليس مستبعداً، خصوصاً اذا تفاقمت الأزمة وأتاحت – أو استوجبت – التدخلات المباشرة.

السابق
موقف السعودية
التالي
السيد: اتفهم حالة الاضطراب والعصبية التي بدت على جعجع خلال مؤتمره الصحافي الذي تهجم فيه على الحكومة الجديدة