ما لم يقله أدونيس عن سوريا والدين

مرة جديدة، بعد «مأساة» الحلاج، أو «نقد» جلال العظم، أو حتى «محنة» مصطفى جحا (في المناسبة، هل من يجرؤ على ذكره، أو تذكر مقتله؟)، مرة جديدة يخرج كلام كبير يثير عاصفة في هذا المستنقع الفكري الراكد في العقل العربي والإسلامي. ولأن عملاً جللاً كهذا يقتضي عظيماً خلفه، كتب أدونيس أول من أمس، في الزميلة «السفير»، عن سوريا. في الشكل، كان كلامه رسالة إلى بشار الأسد. لكنه في البدء والمضمون، كان أدونيس: مشكلة هذا العالم الذي نحن جزء منه ومن معاناته، هي في استنقاعه في «زمن السماء، الجمعي والإلهيّ»، بدل الانتقال التاريخي مع العصر والعالم الحديث، إلى «زمن الأرض، الفرديّ والإنسانيّ». أزمتنا، هي في هذا الدمج «بين ما هو دينيّ وما هو سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ». وهو ما يؤدي إلى قتل «الإنسان شرعاً».

لأنه «لا ديموقراطية أساساً في الدين». ذروة ما في الدين هو «التسامح». «لكن التسامح هو نفسه نقيضٌ للديموقراطية». لأنه «نقيض المساواة»… هكذا عرَّى أدونيس ببضع كلمات شعوباً ومنطقة. شخَّص العلة التي وصفها أمين معلوف في «اختلال العالم»، بهذا الحقد الكبير الذي يكتنزه العالم العربي والإسلامي، ضد كل شيء، وضد كل العالم، وضد نفسه.

لكن اللافت أن أدونيس انتقل من تلك القراءة العامة، إلى مقاربة خاصة للوضع في سوريا، ووضع حزب البعث فيها. حيث رأى بعد عرض مفصل ودقيق، أن المدخل إلى الحل هو في «نبذ المماهاة بين الوطن والحزب»، أي تكرار المطالبة بنسف تلك المادة 8 من الدستور السوري.

لا يمكن عاقلاً أن يخالف أدونيس في ما كتبه. لكن، كأن في ثنايا كلماته بعض المكتوم، أو «اللامقال». ربما لاعتبارات أو محرمات. فماذا لو لم يكن البعث كحزب، قد تماهى فعلاً مع «الوطن»؟ ماذا لو كانت تلك «الفكرة» قد أدركت هزيمتها أمام «خصمها» باكراً، فقررت الانقلاب على نفسها، والتماهي مع فكر «الخصم»، أي مع فكر الإسلام السياسي المركزي والأكثري؟

ماذا لو كان «البعث» كفكرة، قد وُلد أساساً من محاولة ناس الأقليات، لتجاوز ذلك الفكر الأكثري؟ لهذا، ربما لم يعرف يناعه الفكري إلا بين أقلوي أرثوذكسي هو ميشال عفلق، وأقلوي علوي آخر هو الأرسوزي، بالإذن من كل «أساتذة» البعث. وماذا لو كان الاثنان قد أدركا سريعاً هزيمتهما أمام الأكثرية، فذهب عفلق إلى بغداد ليموت مسلماً في ظل نظام صدام، فيما ذهب جناح الأرسوزي إلى التماهي مع الأكثرية، ليحكم دمشق باسمها، وباسم تطلعاتها وأدواتها وفكرها وأساليبها؟
ماذا لو كانت أزمة البعث هي نفسها ما حصل مع كل «فكرة» اندماجية أخرى في هذا العالم؟

عفلق الأرثوذكسي والأرسوزي العلوي، حلما ببعث عربي ينقل الإسلام السياسي السني من «تسامحه» و«دمجه»، إلى أفق أوسع. فأُجهضا، حتى شهر عفلق هزيمته الفكرية، بالتحول عن عروبة البعث الحضارية، إلى «عروبة الجسم الذي روحه الإسلام». تماماً كما حلم أقلوي أرثوذكسي آخر هو أنطون سعاده، بتخطي الفكر الأكثري نفسه صوب سوريا التاريخ والجغرافيا و«الأمة». قبل أن يعلن «هزيمته» هو أيضاً. فينسى «المدرحية» ويشهر أن «كلنا مسلمون…». تماماً كما كانت أحلام أقلويي النهضة العربية. وحتى رفاق ماركس ولينين عندنا، من يوسف إبراهيم يزبك إلى اليوم. هم أيضاً استبطنوا هزيمتهم. فصار شيوعيو المنطقة العربية يفتحون اجتماعاتهم الحزبية بالبسملة، ويشيعون شهداءهم بالذكر الحكيم، ما لم يكونوا ممن سقطوا بالأسيد والنار، من فرج الله الحلو إلى جورج حاوي…

قد لا يكون البعث، حتى مع الأسد، قد تماهى مع الوطن، ولا مع المجتمع. وقد لا يكون قصد التحول إلى «ديانة دنيوية»، مثل كل يوتوبيات الدنيا التي تعوض عن رفضها «المقدس الإلهي» بتقديس الأمة والطبقة والمجتمع والشخص والقائد والجزمة والنجوم. قد يكون كل ما «اقترفه» البعث، هو أنه أدرك هزيمة كل الفكر الإنسانوي في هذه المنطقة من التاريخ المتخلف. وأدرك أن انتظار الديموقراطية يقتضي زمناً طويلاً، بعمر الأجيال.
كأن البعث أدرك كل ذلك، فاقتنع بالتماهي مع خصمه، ليظل حياً، لا كفكرة، بل كناس وبشر.
  

السابق
حركية التاريخ الرسالي في فكر السيد فضل الله(قد)
التالي
السفير: رفـع أكـبـر عـلـم ســوري حـمـايـة للـوحـدة الأسـد: سـنخرج مـن الأزمـة أكثـر قـوة وتلاحمـاً