التقمص:”عمري لا يقاس بحياة واحدة، فالحيوات الأخرى في الانتظار”

"أخي هو خالي"، و"شقيقتي الصغرى جدّة جارتي"! هذا ليس فيلماً هندياً طويلاً يموت البطل في نهايته أو تنتصر فيه الارواح الخيّرة على الشريرة، وإنما بعض ما يرويه أشخاص يؤمنون بعقيدة التقمص ويعتبرون ان وجودهم الحالي ما هو إلا امتداد لوجودهم في جيل سابق، كما انه استمرار للروح نفسها وإن بأجساد مختلفة عبر الأجيال.
الموت بالنسبة لهؤلاء ليس موجوداً، الامر الذي يحل "فوبيا" الخوف من ظلمة القبر أو من عذابه ومن الجنة والنار واللعنة الأبدية، كما تبشّر بعض الاديان معتنقيها، إذ ان التقمص قدّم حسماً لهذه الاشكالية، ووضع النقاط فوق الحروف كما رأى انه مناسب وضعها.
شكّل الموت الهاجس الأكبر للانسان منذ أن وجد على سطح الارض. هو مصدر الخوف الأعظم والرعب الجاثم دائماً فوق قلوب الاحياء. اهتم كل من الدين والفلسفة بمصير الانسان بعد الموت، وتعددت الروايات حوله، رغم اتفاق الاديان بمعظمها على أبدية الروح. فمنها من قال إنها تنتقل الى السماء، ومنها من اعتبر انها لا تغادر الجسد قط بل تبقى فيه إما في حال من العذاب والألم، وإما في حال من الراحة والنعيم، فجاء الاعتقاد بالتقمص ليبدد هذه المخاوف والهواجس عند الذين يعتقدون به، أو على الأقل ليخففها.
يروي رواد المغربي قصة خاله عماد ابن فوزية الذي قضى بإطلاق رصاص في الحرب الاهلية وهو يقاتل في صفوف الحزب التقدمي الاشتراكي في بلدة العزونية. وبعد فترة على وفاة أخيها، وضعت عدلا والدة رواد مولوداً ذكراً، وأطلق عليه اسم عماد تيمناً به. وأول كلمة نطق بها كانت "ماما" ولكن ليس لوالدته وإنما لجدته فوزية! وعندما اكتسب اللغة بشكل جيد في عامه الثالث، أخبر أفراد أسرته عن مكان وجود الأسلحة والذخيرة التي كانت تعود لخاله (أي له)، راوياً كيفية موته السابق، وذاكراً الاماكن التي كان يقاتل فيها، فلم تأخذهم المفاجأة كثيراً، لأن عماد قد نطق. وابن الاحدى عشرة سنة ما زال ينادي والدته وأشقاءها بأسمائهم، فيما لم يزل يمضي الوقت في معظمه عند جدته منادياً إياها "ماما".

حسن العامر يقول ايضاً إن ابنه باسم "نطق". له شقيق قضى طعناً بسكين جاره قبل ثلاثين سنة. وبعد زواجه رزق حسن صبياً لم يكفّ مطلقاً عن البكاء، ولاسيما حين يرى قاتل عمه. لم يعرف أحد سبب ذلك الى أن أصبح في سن يمكنه فيها الكلام، فأخبر أهله بأنه قُتل غدراً على يد هذا الجار، شارحاً لهم تفاصيل الجريمة والاسباب التي دفعت مركبها الى تنفيذها، والمتعلقة باختلاس أموال، وسرقة عقارات ومساحات زراعية وما شابه.

عمر جدتي أربع سنوات!

منذ سن الثلاث سنوات وريم فخر الدين تقف يومياً على شرفة المنزل وتنادي: "يا فوّاز"، مما أثار استغراب الأهل والجيران، إذ ان أحداً لا يحمل الاسم هذا في المحيط كله. ورغم الضرب الذي نالها من والدتها لوقف "مهزلتها"، إلا انها لم تتراجع عن المناداة اليومية، والقول على الملأ بأن المنزل الذي تسكن فيه ليس منزلها، وانما منزلها الحقيقي قديم ويقع خارج البلدة التي ولدت فيها. وعلى أثر اجتياح عام 1982 اضطرت العائلة الى السكن في عماطور بلدة الوالدة، وهناك تحدثت الاخيرة الى امرأة من بلدتها، فأخبرتها عن غرابة ريم وصعوبة طبعها. وأثناء تبادل الحديث اكتشفت الأم ان لهذه المرأة خالاً يدعى فوّاز توفي خلال الحرب في ذلك العام التي ولدت فيه ريم، وعندما لم تتحمل جدتها صدمة وفاته ماتت قهراً. وهنا حضرت ريم لتروي التفاصيل المتعلقة بموت فواز (الذي هو ابنها)، إذ تبيّن انها جدة المرأة وهي لم تكن تبلغ من العمر أكثر من أربع سنوات! ولليوم لم تزل على علاقة بها وبأولادها. وترى أن "الناطق ما ان يطلع الآخرين على سبب موته في الجيل السابق حتى يُنزل عن كاهله حملاً يزن الجبال"، وتضيف: "حياتي طبيعية جداً، الواحد بس يكبر بينسى". ولدى سؤالها عن سبب عدم نطق كل من يؤمن بعقيدة تقمص الأرواح، تجيب: "وحدهم الذين ماتوا ميتة مؤلمة قادرون على تذكّر حياتهم السابقة، أما من مات "ميتة طبيعية" فينسى كل ما له علاقة بذاك الجيل".

وإذا كان النطق يتزامن عادة مع بداية اكتساب اللغة، فإن منير عزام نطق بالجيل السابق وهو في الخمسين من عمره، وذلك عندما كان متوجهاً مع صديقه لحضور حفل زفاف شاب مقرّب من الاخير في بلدة بعيدة عن بلدتهما. وفيما كانت سيارتهما تمر في احدى البلدات المجاورة للمكان المقصود، طلب منير الى صديقه التوقف قائلاً: "أنا أعرف هذه البلدة، انها بلدتي، في الجيل الماضي وهنا بالذات (مشيراً الى منزل واسع)، وقعت على رأسي "قنطرة" كبيرة، مما تسبب بوفاتي على الفور". فما كان من الصديقين إلا أن ترجّلا ودخلا ذاك المنزل للتأكد من الامر، فتبيّن لهما صحته، ولاسيما انها كانت المرة الاولى التي يمران فيها بالبلدة.

لماذا التقمص؟

ينطلق المؤمنون بهذه العقيدة من اعتبار ان الايمان بوجود النظام والعدل الالهي في الكون يفترض التأمل في منطق التقمص. فالتقمّص هو انتقال الروح من جسد متوف الى آخر حديث الولادة، باعتبار انها خالدة لا تتلاشى، وانما تنتقل من كائن الى آخر عبر الاجيال المتتالية. اما المرحلة الاخيرة التي تنتهي اليها بعد رحلتها الطويلة عبر الزمن، فيختلف تحديدها وتعريفها بين الشعوب والديانات التي تتبنى هذه العقيدة.

ويذهب هؤلاء ابعد من ذلك، اذ يرون ان الفروق والتناقضات تحكم وجود البشر على الارض، فهناك من يولد فاحش الثراء، وآخر فقيراً معدماً. هناك من يمضي حياته في هدوء وطمأنينة في احد معابد الهند، وغيره يعيش حياة عشوائية فوضوية في نيويورك مثلاً، وغيرهما من يفتح عينيه على الشهرة والنجومية، وآخرون على الذل والعبودية. هناك من يموت قبل ولادته، وآخر يعمّر ليرى احفاده يكبرون. فكيف يمكن ان توجد كل هذه الفروق بين البشر ويكون العقاب او الثواب هو نفسه للجميع؟
ويرون انه اذا كانت التكنولوجيا الحديثة لم تزل عاجزة عن رصد مسيرة الروح بعد الموت، أو إحياء الجسد بعد مغادرتها له، فأين مصير العدل الالهي القائم على وهب الانسان المساواة في الفرص والحرية في الوصول الى الهدف الذي قد يختار؟ ويتساءلون كيف يكافأ او يعاقب من مات قبل آلاف السنين، تماماً كمن هو حي ولم يستكمل اعماله بعد ويُعتبر الحكم عادلاً؟ وبعد، اذا كانت كل الديانات السماوية بل المذاهب ايضاً تعتبر أنها الوحيدة الناجية، فماذا يكون مصير الشعوب التي لم تصلها تعاليم تلك الديانات او المذاهب؟ هل انهم كانوا مخطئين لأنهم عاشوا في اماكن مجهولة أو في أوقات سبقت مجيء الرسل؟

مؤتمرات ولقاء عن التذكُّر

كان لظهور حالات تذكُّر أحداث الحياة الماضية عند الكثيرين من أفراد مختلف الشعوب حافزاً لبعض العلماء، خصوصاً من أوروبا وأميركا لدراسة تلك الحالات التي أوصلتهم إلى الاعتقاد بصحة انتقال الروح من جسد الميت إلى الطفل الحديث الولادة، وتالياً من صحة "النطق" بعد مقارنة أقوال من ينطق بما حدث له في حياته السابقة.
وحاول المخترع الأميركي توماس أديسون (1847-1931) اختراع آلة لتصوير الروح عند مفارقتها الجسد، ولا يزال الكثير من العلماء في بريطانيا وأميركا يبحثون في موضوع التقمص وينشرون دراسات ومقالات وكتب علمية عن حالات النطق التي تأكدوا من صحتها.
وفي عام 1957 عقد 250 عالماً من 21 دولة مؤتمراً في باريس أقروا فيه بوجود التقمص. وفي 1981 عقد اجتماع في مدينة لوس أنجلس بالولايات المتحدة الأمريكية خصص للأشخاص الذين يتذكرون حياتهم السابقة وقد دفع كل مَن حضر الاجتماع 12 دولاراً ثمن البطاقة.

التقمص عند الدروز

الجسد عند الموحدين الدروز قميص يبلى وينزع ثم يؤخذ غيره، وما الجسد إلا وسيلة لإظهار القوى الروحية، والمتعمقون بالتقوى والعبادة يرون ان نقاوة النفس تجعل العبادة ارتفاع روح الإنسان عن مساوئ الدنيا إلى مصادر العليا ليكون عندها أقرب إلى الاتصال بالله . أما الحساب فيدان الشخص باعتباره كائناً خالداً ويحاسب على ما مر به من أطوار في ملايين السنين التي عاشتها روحه، أما الثواب فيكون بالملذات الروحية لا الجسدية ، فنعيم الجنة روحياًَ لا مجال فيه للملذات الجسدية ذلك إن النفس بعد أن تصل إلى الجنة بصفائها وتنزهها تبطل منها أفعال ومعارف كانت لها في دنياها لأجل جسمها الذي فارقته وتكون أفعالها ما تقتضيه ذاتها بكمالها من تعظيم الله وتسبيحه.

التقمص في القرآن

"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم. ثم يميتكم. ثم يحييكم. ثم إليه ترجعون". (البقرة 28). "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً بعد خلق". (الزمر 6). "ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا لسحر مبين". (هود 7). والمعروف أن السحر هو ما اتهم به المؤمنون والأنبياء وغيرهم كالأسينيين والمسيحيين الغنوصيين وبعض الصوفيين كالحلاج وغيره. ولم يتهم أحد ممن يؤمن بأن الروح تصعد إلى السماء بعد الموت بالسحر والشعوذة. "ثم بعثناكم بعد موتكم لعلكم تشكرون". (البقرة 56). "يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحين ويحي الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون". (الروم 19).

الذاكرة الاسترجاعية

تتجسد الذاكرة الاسترجاعية أثناء النوم المغناطيسي، يطلب فيها من النائم مغناطيسياً ان يعود إلى مراحل زمنية تسبق مرحلة طفولته، إلى زمن ما قبل الولادة. وفي أحيان كثيرة، يبدأ النائم بالحديث عن حياة مختلفة سبقت حياته الحالية، و يروي طريقة موته وكيف فارق حياته السابقة!
وفي بعض الحالات، يقوم الشخص الذي يظهر تمتعه بذاكرة استرجاعية، بالتحدثعنه والبيئة التي عاش فيها، بلغات غريبة لم يتعلّمها في حياته .كما يقوم الشخص بتذكّر تفاصيل دقيقة عن حياة سابقة أدهشت الباحثين بعدما تحققوا من مدى صحتها.
وكتب الدكتور ألكسندر كانون، الذي كان من المشككين بداية في موضوع التقمص: "لسنوات طويلة، كانت نظرية التقمص كابوساً بالنسبة إلي، وعملت جاهداً لدحضها وتكذيبها. لكن بعد مرور السنين والتحقيق في آلاف القضايا والحالات المختلف، وجب علي الاعتراف بأن ظاهرة التقمص موجودة".
وتعتبر بحوث الطبيب النفسي الأوسترالي بيتر رامستر من الأهم في هذا المجال، فهو أنتج شرائط وثائقية تظهر تفاصيل هذه الظاهرة، ونشر عام 1990 كتاباً شهيراً عنوانه "البحث عن أجيال سابقة".

أما أشهر الشرائط الوثائقية التي أنتجها فكان برنامج تلفزيوني عام 1983، يتمحور حول أربعة سيدات أوستراليات مشككات، لم يغادرن بلادهن أبداً، لكن كل منهن عادت بذاكرتها إلى حياة سابقة تحت تأثير التنويم المغناطيسي، وأعطت تفاصيل كثيرة عن تلك الحياة، و من ثم تم نقل كل سيدة إلى المكان الذي ادعت بأنها عاشت فيه. ورافق السيدات في هذه الجولة التي شملت بلداناً عدة، فريق من المصورين ولجنة شهود مؤلفة من شخصيات محترمة .وعادت غوين ماكدونالد، التي كانت مشككة الى حد التعصب قبل إخضاعها لوسيلة الذاكرة الاسترجاعية، الى تفاصيل دقيقة عن حياة سابقة أمضتها في مقاطعة سومرست البريطانية، بين عامي 1756 و1782
  

السابق
Twitter يتقدم facebook يتراجع
التالي
القصة الكاملة لتنازل بري عن “المقعد الشيعي” في الحكومة