أي رمزية لـ «الجامع والجمعة» في الثورات العربية؟

منذ بداية «ربيع العرب» شكل يوم الجمعة برمزيته الدينية محطة أساسية للثورات. كذلك تحول الجامع، رمز الجمع، فضاء أوسع جمع المؤمنين والمؤمنات على قاعدة الخطاب القرآني «إنما المؤمنون أخوة»، ومعنى الإيمان بدلالته التوحيدية يشير في الدرجة الأولى إلى احتضان الإسلام للتعدد ونبذ الخلاف الديني أو المذهبي. ولعل لغة الثوار في ميدان التحرير بمصر الذي ضم أهل الكنانة بمسلميها ومسيحييها تعبر في شكل بارز عن الرسالة الإسلامية إنما «إِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».
والعَروبة هي التسمية التي أطلقها العرب قبل الإسلام على يوم الجمعة، ومع الإسلام سميّ يوم الجمعة، الذي يجتمع فيه المؤمنون في الجامع ضمن حدود الله. وبحسب موسوعة جواد علي «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» فقد «أوردت كتب اللغة والأخبار أسماء الأيام التي كان يستعملها بعض الجاهليين، وتبين منها أن الجاهليين كانوا يسمون الأيام بأسماء مختلفة، وقد ماتت تلك الأسماء الجاهلية وحلت محلها أسماء أخرى. أسماء الأيام عند بعض الجاهليين ممن أخذ عنهم علماء اللغة هي: شيار ويُراد بها السبت، وأول ويُراد بها الأحد، وأهون وأوهد ويراد بها الاثنين، وجُبار ويراد بها الثلاثاء، ودبار ويراد بها الأربعاء، ومؤنس ويراد بها الخميس، وعَروبة أو العَروبة ويراد بها الجمعة. الأسماء العربية لأيام الأسبوع في زمن الحاضر ظهرت بعد الإسلام، وتفيد بعض الروايات أن يوم الجمعة كان من الأيام المعظمة في نظر قريش، وقد عرف بيوم «العَروبة» وكانت تجتمع في كل جمعة إلى كعب بن لؤي بن غالب فيخطب فيها، وهو الذي سمى يوم العَروبة يوم الجمعة، وذلك لتجمع الناس حوله في ذلك اليوم. وقيل ان يوم الجمعة لم يعرف بهذا الاسم إلاّ في الإسلام وأن الأنصار هم الذين بدلوا اسم يوم العروبة فجعلوه الجمعة، ذلك أنهم نظروا، فإذ لليهود يوم في الأسبوع يجتمعون فيه، وللنصارى يوم في الأسبوع يجتمعون فيه هو الأحد، فقالوا: ما بنا لا يكون لنا يوم كيوم اليهود والنصارى، فاجتمعوا إلى سعد ابن زُرارة فصلى بهم ركعتين وذكرهم فيه، فضموا ذلك اليوم، يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، وأنزل الله سورة الجمعة، فهي على حد قول هذه الرواية أول جمعة في الإسلام. ورأى البعض أن يوم الجمعة كان يسمى بهذا الاسم قبل أن يصلي الأنصار. ويوم عَروبة هو اسم قديم للجمعة، وليس بعربي، وعروبة بمعنى غروب في السريانية وفي العبرانية، وقد سمي اليوم السابق للسبت عروبة لأنه غروب، أي مساء نهار مقدس.
والمسجد هو تسمية إسلامية لمكان العبادة. وقد لوحظ في هذه التسمية معنى الأصل الذي اشتقت منه الكلمة، وهو السجود الذي يعني الخضوع الكامل لله. ولليهود والنصارى تسميات لأماكن عبادتهم ذكر منها القرآن الكريم «الصوامع» و«البيع» و«الصلوات». وقد ورد في القرآن استخدام لفظ «المسجد» وأطلق على أماكن العبادة لدى اليهود والنصارى «قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا». من هنا، يجيز القرآن إطلاق لفظ «مسجد» على كل مكان اتخذ لعبادة الله.
مفردة جامع تقال عن المسجد الكبير الذي يقيم فيه المصلون صلاة الجمعة الجامعة، وبصرف النظر عن أهمية التفريق اللغوي والدلالي، شكل الجامع والجمعة، برمزيتهما الجامعة والمقدسة، مجالاً لكبرى الأحداث التاريخية، فالجامع الذي تتلى فيه الصلاة وتقدم الخطب من جانب الإمام، شكل في التاريخ الإسلامي مركزاً لاستقطاب جمهور المؤمنين وولادة الأفكار، والأهم أنه تحول في عدد من المراحل فضاء اعتراضياً ضد الحاكم، أو حتى للدعاء له.
اليوم صار الجامع ويوم الجمعة محطة أساسية في «ربيع العرب». فالجامع يجمع المؤمنين، وخطب الجمعة التي يلقيها رجال الدين والأئمة رافقت الحركات الاحتجاجية خصوصاً في مصر وسورية، وبدت أقل حضوراً في ليبيا واليمن وتونس. فما الرمزية الدينية – السياسية للجمعة والجامع في الثورات العربية. تساؤل طرحته «الراي» على السيد هاني فحص وعالم الاجتماع الدكتور خليل أحمد خليل.

أقام العلامة السيد هاني فحص تمييزاً بين المسجد والجامع، مؤكدا أن النموذج المصري مثّل روح التعددية الدينية. وإذ أشار إلى أن خطب الجمعة لا يمكن فصلها عن الحراك السياسي والمجتمعي**، رأى أن رجال الدين يحاولون استكمال «سلطة موجودة ولكنها منقوصة».

• ما تفسيرك لتحول الاعتراض السياسي على السلطة من المسجد إلى الفضاء الأوسع الجامع للمسلمين؟
– في تقديري أن قراءة مدققة في تاريخ الحركات التغييرية، أو حتى الحركات التي اقتصرت على مطالب اجتماعية عامة أو قطاعية، تؤدي بنا إلى تبين أن مكان التحرك الشعبي من أجل أي قضية عامة كان في كثير من الأحيان يبدأ ويتكوّن في المسجد لأنه الجامع، إذ يلتحق به غير الملتزمين بالصلاة أو الذين يصلون فرادى في منازلهم. وعندما كانت تتحول الحركة من المسجد إلى المكان العام، لم يكن المسجد يغيب تماماً او نهائياً، وهذا الانتقال من مكان إلى مكان من دون قطيعة، يرتبط بأسباب عدة، منها نمط الثقافة المجتمعية السائدة أو الغالبة، فإذا كانت دينية مسيسة أو غير مسيسة كان المسجد هو الفضاء الأول والأعظم، والذين لا ينتمون إلى هذه الثقافة من دون أن يقطعوا معها يتحركون في المكان العام ويتواصلون مع المسجد لأنه مركز. وإذا كانت هذه الثقافة السائدة غير دينية من دون أن تكون قاطعة مع الدين بالضرورة، برز المكان العام مكاناً أساسياً للتحرك من دون أن يلغي المكان الديني الثابت. في الماضي، كان المسجد هو المركز الديني وهو الفضاء العام الاجتماعي، ومن هنا يرد مصطلح المسجد الجامع أي الذي يكون في وسط البلدة أو المدينة ويجمع الناس أكثر من غيره، لأنه وسط لا يختزل بالعبادة، وليس هناك ضرورة فقهية وجوباً أو استحباباً لكون الصلاة في مكان جامع، والمسلم يقيم مسجده في أي مكان شاء، كأن يضع عدداً من الأعواد أو الحجارة في الصحراء حول مساحة معينة ويعتبرها مسجداً وينال على صلاته فيها ثواب الصلاة في المسجد. لقد كان الجامع يجمع لأن التعليم فيه وفيه الصلاة، وحل المشاكل الاجتماعية والاجتماع الناظم لمواقيت الصلاة. وأسلم بأن قدسية المسجد ملحوظة في المسألة، ولكنها ليست كل شيء لأن المكان العام يكتسب قدسية أيضاً، إذا كان مكاناً للسعي بغية تحقيق الحقوق ومواجهة الباطل والظلم والفساد والجور والاستعمار. وتزداد الحاجة الى التحرك من المكان العام للمطالبة والاحتجاج والاعتراض لأنه الأنسب والأكثر جمعاً، إذا كان هناك تعدد ديني مسلم- مسيحي مثلاً أو تعدد مذهبي سني – شيعي، بحيث يمسي التجمع في مكان بذاته كأنه تغليب لطرف على طرف، فلا يجمع بالمعنى الوطني. وقد يكون الجامع خيار الجميع، كما كان في تاريخ مصر مع بداية الحركة الوفدية، أي في الحالات التي تكون فيها الحساسية الدينية منخفضة. وحتى في المكان العام كما حدث في ميدان التحرير في مصر كان هناك من يسعى إلى استحضار روح المسجد الجامع في وسط التعدد الإسلامي والقبطي والعلماني والقومي والليبرالي واليساري، مع قبول الجميع ورضاهم وخوفهم من الهيمنة في المستقبل. في حين استدعى ذلك ظهوراً طقسياً كنسياً مماثلاً ومعدّلاً للصورة في لحظة مشحونة باحتمالات الصدام الطائفي المشغول عليه، بدليل ما حصل من قبل ومن بعد. والكنيسة في لغتها الأصلية معناها الجمع أو الاجتماع، وقد نقلت الصورة عن ميدان التحرير وكأنها كانت تذكرنا بالفترة الوفدية واجتماع الجميع في الجامع، مشايخ ورهباناً وزعماء من سعد زغلول إلى مصطفى النحاس إلى مكرم عبيد، وذلك عندما وضعت القبطية التي علقت الصليب في رقبتها شالاً ليكون محلاً لسجود المصلي المصري، إذ هما ذاهبان معاً إلى مستقبل واحد تتعدد فيه الأديان ويتحد الإيمان ويوحد. هذا المكان المسجدي والمكان العام تكاملاً في الانتفاضات العربية الجارية، في حين تحول المكان العام في المثال اليمني حالة مسجدية جامعة، وإن كانت بدت في حالات أخرى غلبة للمكان العام على المسجد، فإن الزمان الديني عوض نقصاناً في نصيب المكان من التحركات، إذ تحول موعد الحركة العامة على المستوى الوطني إلى يوم الجمعة، بحيث تبدأ الأخبار بعد الصلاة بالخروج إلى الإعلام.
• كيف تقارب دور رجال الدين في الثورات العربية وتحديداً في خطب الجمعة، هل يبحث هؤلاء عن سلطة مفقودة، وإلى أي جمهور يوجهون رسالتهم؟
– دائماً كانت خطب الجمعة ذات مضمون سياسي فكري أو مطلبي، احتجاجي أو اعتراضي، إذا ما كان البلد يتمتع بنسبة من الحرية كافية للقول السياسي في المناسبة الدينية. أما إذا كان البلد موجهاً لسياسة مركزية لها تعميماتها وتعليماتها الصارمة، فإن خطب الجمعة تأخذ طابعاً سياسياً في المعنى المقلوب، تكون سكوتاً عما يستدعي النقد في السلطة أو قبولاً به. ثمة غطاء فقهي مصنّع بحسب الطلب، وفي كل حال تنتهي الخطبة بالدعاء لولي الأمر بطول العمر، وفي الحالين هناك طموح للسلطة، غاية الأمر أن الطموح الأول إصلاحي ضد الدولة، ومعها قد ينقلب في لحظة ما إلى التبشير بمشروع تغيير ديني أو مدني بحسب القوى السياسية المهيمنة ويبقى خلافياً. تقديري أنه ليس بحثاً عن سلطة مفقودة بمقدار ما هو استكمال لسلطة موجودة ولكنها منقوصة لأن مقدرات الدولة ليست في يدهم. أما إلى أين يوجه رجل الدين رسالتهم؟ فالجواب لا يتحمل التعميم لأنهم مختلفون مذهبياً، ومختلفون داخل مذاهبهم، وإن كان رأيي أن توجه أي رجل دين تقليدي هو إلى إقامة دولة إسلامية، وحتى لو أقيمت وهو غير قابل بها لأنه مستقل عن الحزب السياسي الذي أقامها، فإنه لا يلبث بعد استقرار أنظمة أن يلتحق بها وقد ينتقل إلى الصفوف المتقدمة من مؤيديها، إلاّ إذا كان منتمياً إلى تيار وجد منبراً في تاريخنا الإسلامي ولأسباب متعددة، مثل الانفتاح على العصر وثقافاته وعلى الآخر وأطروحاته، أعني تيار رجال الدين ذوي السلوك المدني الذين يرون أن حفظ الدين والدنيا لا يكون إلاّ بالدولة المدنية، دولة الحق والواجب والعدالة والمواطنة والتنمية، دولة الأفراد لا الطوائف. إن خراب الدين والدنيا يكون بدولة علمانية تحول علمانيتها ديناً خالياً من الروح أو بدولة دينية تلغي الدولة بالدين والدين بالدولة، لأنها لا تقيم دولة ولا تحفظ ديناً.
• للجمعة والجامع رمزية دينية، أين الدلالة السياسية، وكيف قرأت هذه الدلالة في الحركات الاحتجاجية الجارية في العالم العربي؟
– الجمعة تأتي منزلتها من النص الذي أوجب الصلاة الجامعة فيها واشترط التوعية العامة للجمهور. والخطبة في يوم الجمعة مفروض أن تكون عظة وتوعية واهتماماً بهموم الناس، إلى ما هو متعارف عليه من فضائلها. أما منزلة المسجد فمن النصوص القرآنية والنبوية التي تؤكد دورها الاجتماعي الجامع على الدين والعلم والتواصل، فهو بيت الله الذي يتساوى فيه الجميع لأن الوقف لمن سبق وهو في أصل تكوينه قبل الزيارات مكان للروح قليل المؤثرات الخارجية، وأقرب في هندسته وفضائه إلى أن يكون مكاناً روحياً، يشعر فيه الغني بضرورة التواضع ويشعر فيه الفقير بالعزاء لأن بيت الله يشبه بيته في بساطته. وقد اكتسب المسجد والجامع أهمية إضافية عندما تحول لقاء لنقل المعلومات ومعرفة الأوضاع وتدبير حركات التغيير.
• بعض رجال الدين في الحركات الاحتجاجية اتخذ مواقف تدريجية ضد الأنظمة كما هي الحال في مصر. أين موقع المعطى الديني تحديداً في ما يتعلق بدور الفتوى؟
– رجال الدين مواطنون، لهم أن يقولوا ما يشاؤون، ويسعون إلى أهداف مختلفة أو متفقة، متصلين بغيرهم أو منفصلين، شركاء أو متفردين، والاعتراض عليهم وارد من جهات مختلفة، وثمة فئات من الناس لا ترى رأيهم ولا تلتزم بإلزاماتهم، من دون حق لهم في اعتبار قولهم أو فعلهم أو خيارهم السياسي فتاوى ملزمة للآخرين. الآخرون الملتزمون إن كانوا سنّة فلا دور للمفتي السني في المجال العام وإن كان هناك دور فهو للقاضي الشرعي، وهو دور يأتي من انظمة الدولة وقوانينها، وهذا القضاء في مصر مثلاً لم يعد قاصراً على رجال الدين بل يتولاه قضاة مدنيون متخصصون. وعليه فدور المفتي أو عالم الدين هو دور ارشادي وليس إلزامياً لأن المرجع هم الفقهاء الأربعة حصراً. أما الشيعي فهو غير ملزم إلاّ بفتوى المجتهد الذي اختار بنفسه ان يقلده ويعمل بفتواه مع الالتفات إلى أنه لا فتوى في الحقل السياسي إلاّ في حدود ما يحفظ النظام العام، ويدعو إلى مشاركة الآخرين في تغيير الحاكم إذا أخل نوعياً بوظيفته في حفظ النظام العام. وإذا أفتى المفتي فتوى سياسية في استطاعة من يقلده أن يخالفها، إلاّ إذا كان المرجع ومقلده من أهل ولاية الفقيه المطلقة، وهم قلة وإلى مزيد من التناقض على مستوى المرجعية وعلى مستوى الأفراد.خليل: رجال الدين موظفون لدى السلطات ودورهم في الانتفاضات العربية هامشي

 

قدم الدكتور خليل احمد خليل قراءة سوسيولوجية للجامع والجمعة ورأى أن الاعتراض السياسي في تاريخ العرب وجد لنفسه حيزاً داخل الجامع، الذي أصبح في «الفورات العربية» قاعدة لإسقاط الأنظمة، كما هي الحال في مصر وسورية. ولفت إلى أن السلطات الحاكمة كانت تراقب غالباً المساجد والجوامع، مشيراً إلى أن دور رجال الدين في «ربيع العرب» ما زال ضئيلاً.
• ما الدلالة التاريخية للجامع والجمعة، وكيف تفسر هذه الدلالة في الثورات العربية الراهنة؟
– لا بد من إرجاع هذه الفورات العربية المعاصرة إلى تاريخيتها الآتية من مراحل عدة في تاريخ العرب والمسلمين. يوم الجمعة عند العرب قبل الإسلام كان يُعرف باسم العَروبة، أي يوم العرب، وفي ذلك اليوم كان يحج الأعراب من البوادي إلى بكة، الاسم الأول لمكة، وكانت تلك الحركة التصوفية تقصد بأنها محجة، وهنا نجد معنى للتجارة عند العرب القدامى في قول عمر بن الخطاب «وهل كنا نذهب إلى الحج إلاّ للتجارة»، قاصداً بذلك أن الحج هو السوق، من سوق عكاظ وغيره، بل هو مهرجان ثقافي وتجاري، سيتحول مع الزمن وخصوصاً مع الإسلام من عادة اجتماعية إلى عبادة. في عهد الإسلام المكي، تحول يوم العرب أو العروبة، بحسب ما جاء في أسماء الأيام العربية في موسوعة جواد علي «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» وفي كتابي الذي نشرته العام 1982 «مستقبل الفلسفة العربية – مفهوم الزمن»، تحول هذا اليوم يوم الجمع أي الجمعة، ونجد في القرآن الكريم تسميات كثيرة لهذا اليوم. المفيد أن هذا الإرث الاجتماعي تحول موروثاً دينياً وخصوصاً مع تبلور ظاهرة الصلاة المفردة والجامعة التي تقع حصراً في يوم الجمع أو الجمعة وتقع عادة في المسجد، مع العلم بأن كلمة جامع لم ترد في القرآن الكريم، فالجامع إذاً هو اسم المسجد في يوم الجمع، ولاحقاً صار يُقال مسجد أي مكان للسجود. يُقال جامع على المسجد الكبير الذي يقيم فيه المصلون صلاة الجمعة الجامعة، والتي صار يتخللها خطب فقهية ثم سياسية، كالدعاء للحاكم أو للخليفة، ثم تطورت لاحقاً عندما أخذ بعض علماء الإسلام ينتحون بعض مريديهم أو تلاميذهم، على غرار ما كان يفعل التلموديون في بَّيعهم. أما اليوم فنجد أنفسنا أمام حراك اجتماعي وديني وسياسي انطلاقاً من هذا الموروث، بحيث تنطلق التظاهرات من الجامع أو الجامعة أو من الاثنين معاً، وذلك لأن لهذه الأماكن العبادية، الطقسية والتعليمية، حروماتها أو حماها، أي الحدود التي تندرج إسلامياً في نطاق حدود الله الذي ينبغي احترامه. هذا في المعتقد، أما في السياسة وعبر التاريخ التغالبي بين العرب، نلاحظ أن السلطات كانت وما برحت عند الضرورات السياسية، تستبيح المحظورات أي المكان المقدس. أهمية الجامع في الفورات العربية أنه أصبح قاعدة لإسقاط الأنظمة، وهذا ما لاحظناه في مصر وسورية ولم نلحظه بوضوح كافٍ في تونس وليبيا واليمن ولكنه تفرد بالتمظهر في تجربة البحرين.
• تاريخياً شكل الجامع حالاً اعتراضية على قاعدة ولادة الأفكار من جهة والثورة على الأنظمة من جهة أخرى. إلى أي مدى ساعد الجامع في قيادة ما تسميه الفورات العربية الراهنة، وكيف يمكن مقاربة هذه المسألة من الناحية التاريخية؟
– لا شك أن المعارضات للحاكمين الموصوفين عموماً بالظالمين، كانت تتعمد الخفاء والخروج ليلاً، وكانت السلطات تواجه تلك الظاهرة بما تسميه العسس، أي جواسيس الليل، وكان نشوء المدارس أو المذاهب الفقهية في بعض المساجد سبباً من أسباب رقابة السلطات على الجوامع والمساجد. في الليل كان العسس، أي ما يسمى الآن الخلايا السرية أو النائمة، التي كانت تعبر عن آرائها ومواقفها بالكتابة الجدارية. وما دامت الصحافة النهارية ممنوعة، فإن الصحافة الجدارية الليلية ستأخذ مكانها على جدران الشوارع وهذا ما يظهر عادة في أزمنة الاضطرابات في غير عاصمة عربية كبيروت والقاهرة ومدن سورية عدة. الثابت أن العامة تتأثر باعتداء السلطات على أماكنها المقدسة، ولكن يبدو أن في الحروب يغدو كل شيء مباحاً إذ إن السلاح يقارع السلاح.
• ماذا عن دور رجال الدين في قيادة الانتفاضات العربية؟
– حتى الآن تبين أن دور رجال الدين العرب المسلمين هامشي وضئيل، رغم تكاثر القنوات الفضائية والفتاوى، إذ إن هؤلاء في أغلبهم موظفون لدى السلطات القائمة ومنقطعون عن الظاهرة الشبابية، التي تعتبر اليوم المحرك الأساسي للفورات الجماهيرية غير المسلحة. وبحسب مواقع رجال الدين نلاحظ أن بعضهم كما في البحرين يعطي للحراك الاعتراضي لوناً دينياً أو مذهبياً، ما دام الحاكم من مقلب آخر.
في مصر بدا الأزهر بعيداً جداً من حركة الشارع المصري، ولا معنى في رأينا لقيام الشيخ يوسف القرضاوي بالصلاة والخطابة في جماهير ميدان التحرير. في ليبيا ظلت ظاهرة رجال الدين في منأى عن الصراع المسلح بين القذافيين وخصومهم، أما في تونس فقد حقق الشباب ما يصبون إليه من الحرية التي نعِم بها الإسلامي راشد الغنوشي الذي عاد من منفاه. ويبقى أن نشير إلى أن الحركات الدينية الإسلامية في هذه البلدان قد تستفيد من الفورات الشبابية الراهنة، إذا ما جرى انتقال السلطة من العسكر إلى المدنيين. ويبقى السؤال للمستقبل: هل ستشهد هذه البلدان تشكل طبقة مؤلفة من العسكريين والمدنيين أم أن الفورات هذه ستتحول تدريجاً ثورات سياسية بكل معنى الكلمة.

السابق
لبنان فوق «الفوهة» السورية الجميع «يستشرف» خيارات… الجميع
التالي
برامج التحضير للدخول إلى المدرسة تفيد لاحقاً في سن الـ 25