عن رحلتي إلى دمشق: أشياء كثيرة تغيّرت

عندما كنت اتردد في السنة الاخيرة الى دمشق مجريا لقاءات واسعة مع مروحة منوعة من السياسيين والصحفيين والمثقفين، كان السؤال الذي يطرحونه علي من فورهم: كيف هي احوال بيروت؟ اما السياسيين المطلعين منهم، فكنت اسألهم بدوري: كيف تنظرون الى الاوضاع في لبنان؟ اما في زياراتي الاخيرة، فقد بدا لي بأن الموقف انقلب تماما، واصبحت اسأل الجميع سؤالا واحدا ومحددا: ماذا يجري في سوريا، وما هو الافق برأي دمشق واهلها من سياسيين ومثقفين وصحفيين ومواطنين.

الموقف في سوريا ليس مريحا لشخص لبناني ينظر الى الامور من هذه الزاوية. في وسعنا ملاحظة ملامح الازمة السورية من اللحظة التي نصل فيها الى الحدود من جهتيها اللبنانية والسورية. لا زحمة سيارات ومواطنين وعمال واصحاب مقاصد من شتى الاتجاهات، وبعكس رجل الجمارك اللبناني المبتسم الذي يصافح غالبية المارين بوصفهم اصدقاء، يبدو رجل الجمارك السوري مهموما منتبها محاولا اعطاء انطباع للمسافرين في الاتجاهين بأن الامور لا تزال تحت السيطرة. ارباك رجل الجمارك وشكله وصورته والاشارات التي يعطيها كموظف، تشبه الى حد كبير الارباك والانشغال الذي تعيشه دمشق بموالاتها ومعارضتها. وهذا ما جعلني افهم كيف اعتذر احد القيادات السورية في اللحظة الاخيرة عن عدم قدرته على لقائي رغم الموعد" بسبب اضطراره للذهاب مع احد الوفود الى الرئيس في اطار التحضير للحوار الوطني". اما السيدة المعارضة الاتية من خلفية ادبية وثقافية، فقد اعتذرت بدورها عن اللقاء بي عبر رسالة نصية هاتفية قالت فيها:"ان اوضاعها الامنية تمنعها من ملاقاتي". انه انشغال السلطة وخوف المعارضة او جزء منها بأبهى تعبيراته. لكن الرحلة لم تنته والهواء الدمشقي العليل يحمل في طياته روايات عديدة لما يجري في سوريا بعدما ينوف عن الشهرين من بدء الازمة.

على طاولة الغذاء التي اقامها احد الاصدقاء من "الموالين الاصلاحيين" اذا صح التعبير، لم يفاجئني وجود شخصيات معروفة بمواقفها المعارضة تاريخيا. المأدبة اقيمت على شرف احد الادباء السوريين الذي نال جائزة ادبية عربية. المكان المكتظ بالزبائن يوحي بأن المدينة تعيش يومياتها بشكل طبيعي. اما الكلام الذي دار حول الطاولة فقد كان معبرا، ويختصر بشكل كبير الموقف في سوريا بمعزل عن الاعتبارات السياسية والاعلامية وما يجري ضخه بالاتجاهين (الموالي والمعارض) عبر وسائل الاعلام. ويكاد الموالون والمعارضون يتفقون على جملة واحدة اساسية ومفتاحية في ايجاد حلّ للأزمة السورية: الاصلاح والرئيس.

ثمّة اراء متظرفة يطلقها المعارضون بجرأة استثنائية في دمشق. وثمة اصغاء من جانب "السلطة" ومحاولة للتخفيف من غلواء هذه الاراء وايجاد قواسم مشتركة يجري البناء عليها للخروج من المأزق. الجميع يعترف بوجود ازمة داخلية سورية، بعيدا عن المداخلات الخارجية والظواهر السلبية والمتطرفة التي دخلت على خط الاحتجاجات الشعبية. هنا ينال رجل مثل "الشيخ العرعور" كمية وافرة من النقد وحتى الشتائم التي تأتي على لسان "معارضي" الداخل قبل السلطة. فالرجل برأيهم يحرف مسار الاعتراض السوري ويعطيه بعدا طائفيا خطيرا، ولا يسلم مؤتمر "انطاليا" من النقد ايضا لأنه لا يعكس حقيقة التمثيل السوري المعترض وواقعه واطروحاته وادبياته وسقف مطالبه.

هنا يقول احد معارضي الداخل بأن سوريا تختلف عن كل الدول التي شهدت احتجاجات وثورات، ويعتبر ان عدم وجود سقف مطالب واضح لدى المعترضين هو بمثابة التعاطي العبثي مع ما يجري. يوافقه معظم الحاصرين ويدور نقاش حول الاولويات الاصلاحية ويطرح سؤال جدي وحقيقي وهادف: من اين يجب ان تبدأ السلطة بالاصلاح؟ وما هو سقفه؟ وكيف تتجنب سوريا الذهاب نحو السيناريوهات الاسوأ؟ على صعيد دورها الاقليمي، ووضعها الداخلي؟ كيف تمنع نشوء ارضية صلبة للقوى المتطرفة التي يخاف منها المعارضون الليبراليون اكثر من خوفهم من السلطة الحالية التي عرفوها واختبروها وعرفوا كيفية التعايش معها.. وكيف تجري مواجهة المداخلات الخارجية التي تطمح لايجاد موطيء قدم لسياساتها في دمشق؟ ثم ماذا عن الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية؟ وماذا عن الاصلاح السياسي والمشاركة واطلاق الحريات العامة والحريات الاعلامية والسياسية؟

كثيرة هي الاراء حول هذه الاسئلة. لا احد يملك اجوبة جاهزة وتصورات نهائية. الجميع يضع تصوراته على الطاولة. يحتدم النقاش في بعض الاوقات. يرتفع الصوت ويخفت. جميع القضايا متساوية من حيث الاولوية. ولا مفر من سلّة اصلاحية كاملة وافرة لا تعطي اولوية على سواها. الحريات السياسية والاعلامية ضمن "الهوية السورية" اولوية. مكافحة الفساد والرشوة اولوية. النظر بعين التنمية الى الشرائح المهمشة والاكثر ضعفا في المجتمع اولوية. التخفيف من دور الامن واجهزة الاستخبارات اولوية. والحفاظ على وحدة النسيج السوري والاراضي السورية ورفض التدخل الخارجي اولوية ايضا.

عند هذا الحد تتلاقى اصوات معارضة وموالية ايضا. لم تعد سوريا قادرة على المراوحة في وضعها الحالي، يقول الرجل القريب من السلطة. يهمس في اذني بأن "الوضع الحالي غير مريح اطلاقا، ويخبرني انه ينقل هذه المناخات لاعلى المراجع في الدولة، وانه يسمع منها كلاما ايجابيا في هذا الصدد. الجميع ينتقد التأخير في اجراء الاصلاحات المطلوبة، ويسأل عن اسباب هذا التأخير. لماذا لا تواجه الدولة كل الظواهر السلبية بالزخم الاصلاحي المطلوب؟ وماذا تنتظر؟ وهل مكافحة "الارهاب" عملية تمنع الاصلاح؟ ها هي دمشق هادئة وتخرج من مساجدها "مظاهرات تذكيرية"، وغالبية الناس مع الرئيس بشار الاسد رغم انهم فقدوا الثقة بالنظام والياته. فلماذا لا تبادر القيادة فورا الى استيعاب الشارع ومطالبه من اجل اوسع مشاركة وطنية سورية سياسية وتحصين الداخل في مواجهة المشاريع المطروحة على المنطقة والحفاظ على دورها المقاوم؟

في الطريق، كل شيء يشبه نفسه في دمشق. الحياة تسير على طبيعتها، والمقاهي مكتظة والمطاعم والاسواق. انها حياة طبيعية فعلا، لكن في الوجوه نقرأ اسئلة جدية حول المستقبل والاصلاح والانتقال من حقبة الى حقبة. وقد قال لي صديقي الشاعر قبل ان اغادر دمشق: ارجو ان تعود في المرة المقبلة وتكتب عن الاصلاح وسوريا الجديدة وننتهي من هذه المرحلة التي تفتقد الملامح. سوريا بلا ملمح واضح الان.. وتحتاج دما جديدا يضخ الحياة في ملامحها ويمنحها الاستقرار "الواقعي". قال لي هذا متحفظا على كلمة "دم" واضعا يديه في الهواء كمزدوجين اثنين

السابق
فريدمان: إنهم يطلقون النار على الجياد في سورية
التالي
أمل والإحيائية المذهبية