القدس، مثل اسرائيل

 التقى أبواي في القدس في الخمسينيات، عندما كانا يتعلمان في الجامعة العبرية. وكانت المدينة في حينه مركزا لنخبة بوهيمية وثقافية، تختلف في طابعها عما كانت عليه تل أبيب. وان شئتم، فقد نشأت في الرحاب الذي بين يوسي بناي ويشعياهو ليفوفتش. وهما مثل معظم أبناء جيلهما، لم يبقيا في القدس بعد الدراسة، ولكن في ذاكرتهما بقيت المدينة مع طبيعة لا مثيل لها في أي مكان آخر.
الاحياء التي روى عنها بناي هي اليوم اصولية على نحو صريح. الجامعة هي جامعة اخرى، ونطاقها المغترب في جبل المشارف لا يأخذ صورة بذات الضوء الذي انبثق ذات مرة من النطاق في جفعات رام. رئيس البلدية نير بركات يحاول اليوم تسويق القدس للعلمانيين عبر أحداث ثقافية، امتيازات للطلاب وتسهيلات لمن ينقل اليها اعمال التكنولوجيا العليا. أنا أعرف بركات منذ سنوات عديدة، لديه قدرة عظيمة على الفعل ولكن هذا كفاح مآله الفشل. القدس كانت دوما رمزا لاسرائيل بأسرها، والامراض التي علقت باسرائيل واضحة فيها أكثر من أي مكان آخر. لن يكون ممكنا الشفاء منها بتسهيلات ضريبية لمن يستأجر مكتبا في جبل حوتسفيم.
مثلما في اسرائيل كلها، في القدس أيضا نسي تماما بان الادعاء الصهيوني لم يكن فقط أن نبني هنا وطنا للشعب اليهودي بل وايضا مجتمعا قدوة. نسي الادعاء بمكان يكون مركزا للحكمة والقيم، ولم يتبقَ سوى هوس "لنا" والضغينة والخوف مما ليس نحن، وهو قريب ومهدد جدا. قاعة كرة السلة في المالحة هي أحد الاماكن المحببة لدي في البلاد بان أبث منها، ومؤيدو هبوعيل يروشلايم مضحكون ومجانين كما ينبغي. الاغنية المحببة عليهم، فضلا عن الموقف من رئيس مكابي تل أبيب شمعون مزراحي، هي "تل أبيب تحترق". أنا لا أجعل قصة من كلمات "اغاني المؤيدين" ولكن هذا هو الاحساس الذي أتلقاه في القدس – بشكل متعاظم في كل مكان ليس "دولة تل أبيب": ليس مع الـ "نا" في معنا بل في "كم" في ضدكم.
"القدس" أصبحت اسما حركيا يحمله كثيرون ولكن القليلين يعرفونه حقا أو يتناولونه من حيث المضمون: التمسك بالقدس الكاملة، تلك التي لن تقسم ابدا، بما فيها مخيم شعفاط للاجئين الذي لم تطأه قدم يهودي أبدا منذ عشرات السنين. بذات القدر، فان أغلبية من يتحدثون عن تطوير العاصمة لم يحجوا اليها منذ زمن طويل كي يحتسوا شيئا أو يديروا جدالا. رئيس الوزراء هو أيضا، من مواليد القدس ورئيس الرافعين لاسمها بين الملأ، يقضي عطلته الاسبوعية في قيساريا.
مثلما في اسرائيل بأسرها، الفجوة بين الاقوال والواقع في القدس تصبح لا تطاق. كل اسرائيلي يعرف أنه في نهاية المطاف الاحياء العربية حول القدس ستكون جزءا من الدولة الفلسطينية وليس لنا أي مُلك تاريخي او رغبة فيها. ولكن شعار "سيقسم القدس" يواصل كونه السلاح المطلق للتشهير بالخصم، الاتهام بالخيانة التي لا يعرف أحد معناها الحقيقي ولكن لا يوجد ما هو أفظع منها. مثلما في اسرائيل بأسرها، الجدالات حول القدس لم تعد تدار منذ زمن بعيد على المستوى الحقيقي وبالحقائق بل مستوى الغضب، الخوف والكلمات الفارغة.
القدس ستتغير عندما نتغير نحن. عندما كان الحلم في أن نخلق هنا دولة تكون نورا للاغيار، قدوة أخلاقية وثقافية، سيعود الى مكانه المناسب ليحل محل الفكرة التضحوية المتباكي والكدي الذي يأتي اليوم من الحكم ومن الخطاب الاعلامي. عندما نعود لنتعاطى مع أنفسنا مثل الصورة التي تتخذها القدس في خيالنا قبل الايام الستة: صغيرة ومقسمة حقا، بعض من احيائها يسكنها قناصون، من خلف الجدار ولكنها فخورة بنفسها، تعترف بقوتها وعديمة الخوف. 

السابق
فضل الله: الخطورة تكمن باستخدام لبنان كساحة للرسائل
التالي
لحظة الحسم تقترب واوباما يمنع الحل